(
MENAFN- Alghad Newspaper)
في خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، تتشكل ملامح جديدة للمشهد الإقليمي، تنذر بتحولات جذرية في موازين القوى وطبيعة التحالفات، فالمنطقة التي طالما كانت ساحة للصراعات والتنافس الدولي، تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي، يحمل في طياته تحديات وجودية لبعض الدول، وفرصاً استراتيجية لأخرى، هذا المشهد المعقد يتطلب تحليلاً عميقاً لفهم الديناميكيات المتشابكة التي تشكل مستقبل المنطقة.
في قلب هذا المشهد المضطرب، تبرز الحرب الإسرائيلية على غزة كنقطة تحول محورية. فما بدأ كعملية عسكرية محدودة، تحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، كشفت عن هشاشة الاستقرار الإقليمي وعمق الانقسامات العربية، هذه الحرب لم تقتصر آثارها على الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل امتدت لتشمل المنطقة بأسرها، مؤثرة على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين دول المنطقة.
فبينما تواجه إسرائيل تحدياً وجودياً غير مسبوق، يتجلى عجز النظام العربي الرسمي عن التأثير في مجريات الأحداث، مما يفتح الباب أمام قوى إقليمية أخرى لملء الفراغ. هذا العجز يعكس أزمة عميقة في النظام الإقليمي العربي، الذي يعاني من انقسامات داخلية وضعف في التنسيق والتعاون المشترك.
إيران، القوة الإقليمية الصاعدة، تستثمر في هذا الوضع لتعزيز نفوذها، فمن خلال دعمها لحلفائها في المنطقة، من حزب الله في لبنان إلى الحوثيين في اليمن، تسعى طهران لرسم خريطة جديدة للنفوذ الإقليمي. هذا التمدد الإيراني يثير قلق الدول الخليجية، التي تجد نفسها في موقف دقيق بين الحفاظ على علاقاتها التقليدية مع الغرب، وضرورة التعامل مع الواقع الجيوسياسي الجديد. وقد دفع هذا القلق بعض دول الخليج إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية والدولية، بما في ذلك التقارب مع إسرائيل.
في هذا السياق، يبرز الدور التركي كعامل توازن محتمل، فأنقرة، بموقعها الجغرافي الفريد وطموحاتها الإقليمية، تسعى للعب دور الوسيط بين المعسكرات المتصارعة. لكن هذا الدور يصطدم بتحديات جمة، أبرزها الموقف الأميركي المتردد تجاه المنطقة، والذي يترك فراغاً استراتيجياً تتسابق القوى الإقليمية والدولية لملئه. تركيا، بسياستها الخارجية النشطة، تحاول موازنة علاقاتها مع الغرب وروسيا وإيران، مما يجعلها لاعباً مهماً في تشكيل مستقبل المنطقة.
الولايات المتحدة، التي طالما كانت اللاعب الرئيسي في المنطقة، تجد نفسها في موقف صعب، فسياسة ((الانسحاب الاستراتيجي)) التي تبنتها في السنوات الأخيرة، تركت حلفاءها التقليديين في حالة من عدم اليقين. هذا الفراغ فتح الباب أمام قوى دولية أخرى، وعلى رأسها روسيا والصين، لتعزيز وجودها في المنطقة. التحول في السياسة الأميركية يعكس تغيراً أوسع في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، التي باتت تركز أكثر على منطقة المحيط الهادئ ومواجهة الصعود الصيني.
روسيا، من خلال تدخلها العسكري في سورية وعلاقاتها المتنامية مع دول المنطقة، تسعى لاستعادة مكانتها كقوة عظمى على الساحة الدولية، موسكو تستغل الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها الدبلوماسي والعسكري، مستفيدة من علاقاتها التاريخية مع بعض دول المنطقة وقدرتها على التعامل مع مختلف الأطراف.
أما الصين، فتركز على النفوذ الاقتصادي من خلال مبادرة ((الحزام والطريق))، مما يمنحها نفوذاً متزايداً في المنطقة دون الحاجة للتورط المباشر في صراعاتها، الاستراتيجية الصينية تعتمد على تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية، مما يخلق شبكة معقدة من المصالح المتشابكة بين بكين ودول المنطقة.
في ظل هذه التحولات، تبرز قضية التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية كنقطة محورية في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي. فبينما يرى البعض في هذا التطبيع فرصة لتحقيق الاستقرار وتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، يراه آخرون تهديداً للقضية الفلسطينية وتغييراً جذرياً في موازين القوى الإقليمية، هذا الانقسام يعكس الصراع الداخلي في العالم العربي بين التيارات المؤيدة للتغيير والتيارات المحافظة.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه المنطقة يتجاوز الصراعات السياسية والعسكرية، فالتغير المناخي وندرة المياه يشكلان تهديداً وجودياً حقيقياً لدول المنطقة، هذه التحديات البيئية قد تكون العامل المحفز لتعاون إقليمي غير مسبوق، أو قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات القائمة، فالجفاف وارتفاع درجات الحرارة يهددان الأمن الغذائي والمائي لدول المنطقة، مما قد يؤدي إلى موجات نزوح واسعة وصراعات على الموارد.
في خضم هذه التحولات، تبرز أهمية إعادة النظر في مفهوم الأمن القومي للدول العربية، فالتحديات الجديدة تتطلب رؤية شاملة تتجاوز المفهوم التقليدي للأمن العسكري، لتشمل الأمن الاقتصادي والبيئي والإنساني. هذا التحول في مفهوم الأمن يتطلب استراتيجيات جديدة للتعامل مع التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب الإلكتروني والهجرة غير الشرعية وانتشار الأوبئة.
إن التحديات الاقتصادية التي تواجهها دول المنطقة، من البطالة المرتفعة إلى الاعتماد المفرط على النفط، تضيف بعداً آخر للمشهد المعقد. فالحاجة إلى التنويع الاقتصادي وخلق فرص عمل للشباب تشكل ضغطاً إضافياً على الحكومات، التي تواجه صعوبات في تحقيق التوازن بين متطلبات الإصلاح الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
في الوقت نفسه، تشهد المنطقة تحولات اجتماعية عميقة، مع صعود جيل جديد من الشباب المتعلم والمتصل بالعالم، هذا الجيل يطالب بمزيد من الحريات والمشاركة السياسية، مما يضع الأنظمة الحاكمة أمام تحديات جديدة تتعلق بالحوكمة والشرعية.
ختاماً، يمر الشرق الأوسط بمرحلة تاريخية فاصلة، تحمل في طياتها مخاطر جمة وفرصاً نادرة. فإما أن تنجح دول المنطقة في صياغة رؤية مشتركة للتعامل مع التحديات الراهنة، أو أن تجد نفسها أمام واقع جيوسياسي جديد، قد لا يكون في صالح أي منها. المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، والخيار يبقى بيد قادة المنطقة وشعوبها في تحديد مسار المرحلة القادمة.
إن القدرة على التكيف مع هذه التحولات والاستفادة من الفرص التي تتيحها ستكون العامل الحاسم في تحديد مستقبل المنطقة، فالدول التي ستتمكن من بناء اقتصادات متنوعة، وأنظمة سياسية أكثر شمولية، وعلاقات دولية متوازنة، هي التي ستكون في وضع أفضل للتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين.
في النهاية، يبقى الأمل معقوداً على قدرة شعوب المنطقة على تجاوز الصراعات التاريخية والانقسامات الطائفية، والعمل معاً لبناء مستقبل أفضل. فالتحديات التي تواجه المنطقة اليوم هي تحديات مشتركة، تتطلب حلولاً مشتركة وتعاوناً إقليمياً غير مسبوق. وعلى الرغم من صعوبة المشهد الحالي، فإن التاريخ يعلمنا أن الأزمات يمكن أن تكون أيضاً فرصاً للتغيير الإيجابي والتحول نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
MENAFN15092024000072011014ID1108675826