Friday, 16 August 2024 11:26 GMT



الافتراضي هل يلغي الواقعي

(MENAFN- Al Watan) مُذ سادَ ما أُطلق عليه العصر الرقميّ، وحتّى قَبل أن تتبلور ملامحُهُ وتترسّخ، كانت صرخاتُ الفلاسفة والمفكّرين عمومًا من شتّى أنحاء العالَم تدوّي مُنذرةً بخرابٍ آتٍ؛ حتّى إذا ما أثبت هذا العصرُ نفسَه، ورُحنا نشهد تمظهراته وتجلّياته كافّة، ولا سيّما على صعيد الثورة في استخدام وسائل التواصُل الاجتماعيّ ضمن شبكات الإنترنت عمومًا، غدا الكلام على اختفاء الواقعيّ لمصلحة الافتراضيّ موضوعًا يستحقّ الكثير من التأمّل.
ترميز التافهين
لا شكّ أنّنا أمام الإمكانيّات الهائلة التي وفَّرَتْها وسائل التواصُل الاجتماعيّ للناس على مستوى المُناقشات العامّة والتواصُل فيما بينهم، على اختلاف انتماءاتهم المناطقيّة والعُمريّة وخلفيّاتهم الثقافيّة، فضلًا عمّا تمتاز به كلّ وسيلة (مثل فيس بوك وقوقل، وواتس آب، وتويتر، وفايبر، وسكايب، وإنستجرام وغيرها) من خصائص، وما تُوفِّرُ من وظائف، ومدى الاعتماد عليها لجمع المعلومات المتنوعة، على اختلاف المستويات التعليميّة والمهنيّة والثقافيّة للأفراد؛ ذلك أنّ عظمة هذه الإمكانيّات ولَّدت ((دمقْرَطة غير مسبوقة للكلام)) على حدّ تعبير الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي. إلّا أنّ الأخطار والتهديدات والتحدّيات النّاشئة عن الثورة الرقميّة بعامّة، وسيطرة وسائل التواصُل الاجتماعيّ بخاصّة، توازي، إذا كانت لا تفوق، الإيجابيّات المتأتّية عنهما. فهذه الدمقْرطة غير المسبوقة للكلام، التي تتجلّى في أنّنا ((كلّنا مدفوعون إلى الاتّصال بالهواتف، وكلّنا يجد الرغبة في قول شيء ما انطلاقًا من تجربته الخاصّة...)) (جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ، ترجمة حافظ إدوخراز)، أفضت برأي ليبوفتسكي إلى تغليب فعل التواصُل على حساب طبيعة موضوع التواصُل، وإلى اللّامبالاة تجاه المضامين، وإلى انمحاءٍ للمعنى...إلخ؛ إذ على الرّغم من كلّ الفُرص التي أتاحتها الشبكات الاجتماعيّة ومواقع التواصُل (مثل تويتر وفيسبوك وإنستجرام) للناس، إلّا أنّها نجحت، بحسب الفيلسوف الكنديّ آلان دونو Alain Deneault، في ((ترميز التافهين))، أي ((تحويلهم إلى رموز)) (آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة وتعليق مشاعل الهاجري).
خير عميم وخسائر فادحة
جاءت الثورة الرقميّة بالخير العميم، كما جاء في كلام سعيد بنكَراد في تقديمه كتاب ((الإنسان العاري، الديكتاتوريّة الخفيّة للرقميّة)) لمارك دوجان وكريستوف لابي، و((كسب الإنسان بفضلها أشياءً كثيرة: في المعلومة ومُعالَجتها وتداولها، وفي الصحّة وطول العمر والأمن والسرعة، ولكنّه خسر كلّ شيء أيضًا، الحميميّة والحياة الخاصّة والحريّة والحسّ النقدي. لقد رُدَّت هويّته بكّل غناها إلى دائرة الاستهلاك وحده؛ اختفى المُواطِن، كما اختفى التنافس السياسي وتعدّد البَرامِج وتنوّعها، لكي يعوض كل ذلك بآليّة ضبط سياسي صارم يتحكّم في الرأي العام ويُوجّهه، وذلك ما تقوم به الشبكات الاجتماعيّة بشكلٍ ناعِم وطَوعيّ، حيث يَضع الناسُ فيها حريّتهم عند أقدام فاعلين رقميّين يعرفون عنهم ما لا يعرفونه عن أنفسهم)). إنّهم هؤلاء الفاعلون الرقميّون الذين تؤول إليهم سلطة التحكُّم بالمعلومات أو الـBig data بما يصبّ في مصالحهم؛ والمقصود بهؤلاء الفاعلين الرقميّين مجموعة الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي تنحصر غايتها في الربح، والربح السريع أوّلًا وأخيرًا، المُقترن بابتكار آليّات جديدة ومتجدّدة لتشكيل أذواق الناس وتطلّعاتهم وأنماط عيشهم.
على هذا ((لا تكتفي هذه الثورة الرقميّة بالتحكّم في نمط حياتنا وتوجيهها إلى ضخّ المزيد من المعلومات والمزيد من السرعة في الاتّصال، إنّها إضافة إلى ذلك، تقودنا إلى حالةٍ من الامتثاليّة والعبوديّة الإراديّة و((الشفافيّة))، ستكون نتيجتها النهائيّة هي القضاء على الحياة الخاصّة، حينها سيتنازل الناس طوعًا عن حرّيّتهم)) (مارك دوجان وكريستوف لابي، الإنسان العاري).
عالم افتراضي عار
العالَم الافتراضيّ الخاضع، شأنه في ذلك شأن العالم الواقعي، للمنطق الاقتصادي العالَمي نفسه وأخلاقيّاتِه وقيَمِه الثقافيّة المُعولمة، ولا سيّما قيمتي الاستهلاك والفردانية، ولكل ما تستلزمه آليات الإنتاج والتسويق والربح، تضخم إلى حد طغيانه على العالم الواقعي والتهديد بإلغائه ليغدو ما سمّاه بودريار ((فوق الواقع)). وتكمن مخاطره بحسب بودريار في أنّ الميديا والواقع يغدوان ((سديمًا واحدًا عصيًّا على فَهم حقيقته)) (جان بودريار، المُصطَنَع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبداللّه)، هو عالَم ((تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يُصبح المعنى فيه أقلّ فأقلّ))، فما نعيشه اليوم بحسب بودريار ((هو ابتلاع نمط الإعلان لكلّ أنماط التعبير الافتراضيّة، فكلّ الأشكال الثقافيّة الأصيلة، وكلّ الكلمات المُحدَّدة مُبتلَعة في هذا النمط لأنّه بلا عُمق وفوريّ وسريع النسيان. إنّه انتصارُ الشكل السطحيّ، الحدّ الأدنى المُشترَك لكلّ مدلول، درجة صفر في المعنى...)) (بودريار).
العلاقة الحرة بالتقنية
قيمتا الاستهلاك والفردانيّة، ليستا جديدتين لأنهما واكبتا صعود الرأسمالية والمجتمعات الصناعيّة المتقدّمة أو مجتمع ((الحداثة)) و((التقنيّة))؛ آنذاك قاد التطور التقني الفلاسفة إلى المطالبة بعلاقة حرة بالتقنية، ومن أبرز هؤلاء هايدجر، أو فيلسوف الكينونة (1889 - 1976) الذي حذَّر من كلّ ما من شأنه أن يُهدّد الإنسان ويجعله ((يَهجر)) كينونته الحرّة، مركزا على إقامة علاقة حرّة مع التقنيّة، وعلى أن ((تُفتح كينونتنا على ماهيّة التقنيّة))، وعلى أن نُصبح أسيادًا عليها، سيادةً ((تصبح أكثر إلحاحًا كلّما هدَّدت التقنيّة أكثر بالانفلات من مُراقبة الإنسان)) (التقنيّة - الحقيقة - الوجود، ترجمة محمّد سبيلا وعبدالهادي مفتاح).
سبيل للاستغلال
كان ماركس (1818 - 1883) قد رأى في التقنيّة سبيلًا أتاح للطبقة البرجوازية ممارسة استغلالها للطبقة العاملة، وأدّى إلى اغتراب العامل عن إنسانيته؛ ثم رأى فيها هربرت ماركوزه (1898 - 1979) اختزالًا للإنسان ببُعدٍ واحد...إلخ.
لكنّ الثورة الرقميّة، بما هي ثورة صناعيّة في مضمونها تقودها حيتان المال، لا تُشبه في سماتها ومظاهرها أيّ ثورة سابقة، لا في مظاهرها ولا في تداعياتها على الأفراد والمُجتمعات؛ حيث فوَّضت الولاياتُ المتّحدة الأمريكيّة مثلا لكل من بيل جيتس صاحب مايكروسوفت، ومارك زاكزبيرج صاحب فيسبوك، استغلالَ وتخزينَ وتكريرَ المَناجِم الرقميّة، فكوَّنوا إثر ذلك ثروة وسلطة غير مسبوقتَين على حدّ تعبير مارك دوجان وكريستوف لابي، اللّذين علَّقا بالقول ((لقد أعلَن العالَمُ الرقميُّ عن ميلاد أوليجارشيّة فائقة. والمُعطيات تؤكد أنها مادة أولية لا تَنفد، إنّها تُبعَث باستمرار من أنابيب الرقميّة)) (الإنسان العاري).
وما يصحّ من كلام على التقنيّة يصحّ على ظاهرتَيْ الاستهلاك والفردانيّة اللّتَيْن رافقتا زمن الحداثة؛ إذ بلغَ المُجتمعُ الاستهلاكيّ أعلى درجاته في عصر الثورة الرقميّة والميديا والاتّصال، وحلَّت ((فردانيّة خالصة)) بدلًا من فردانيّة زمن الحداثة التي حملت بعضًا من قيَم ((الانضباط)) و((المُناضلة)) و((البطولة)) و((الوعْظ الأخلاقيّ))، ((مُتحرِّرة من آخر القيَم الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي لا تزال تتعايش مع الحُكم المجيد للإنسان الاقتصاديّ وللأسرة والثورة والفنّ، وتتجاوز أيّ تأطير مُتسامٍ)) (جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ. الفردانيّة المُعاصرة وتحوّلات ما بعد الحداثة، ترجمة حافظ إدوخراز). إنّها فردانيّة ماتت معها وفيها ثقافة التضحية، ((ولم نَعُد نَجِد أنفسَنا في واجب العيش من أجل شيء آخر من غير ذواتنا)) (ليبوفتسكي، ص 238). كما أنّ ((الفردانيّة السابقة، التي كانت انضباطيّة وواعظة أخلاقيّة، قد تم تنحيتها جانبًا من طَرَفِ فردانيّةٍ جديدة وفق الطلب، تتميّز بكونها مُتعيّة ونفسيّة، وتَجعل من التحقق الذّاتي أهمّ غاية في الحياة)).
انحدار المشاريع المجتمعية
أدت الثورة الفردانية الثانية إلى انحدار المشاريع المجتمعية الكبرى، وتآكل الهويات الاجتماعية والمعايير الإكراهية، وإلى تقديس حرية التصرف في الذات على مستوى الأسرة والدين والجنس والرياضة والموضة والانخراط السياسي والنقابي (حسب ليبوفتسكي).
خوف جدي
الخوف من طغيان الافتراضي على الواقعي لا يعززه توسع مُجتمع المعلومات وسرعة تداولها، ولا سيّما على صعيد شبكة الإنترنت فحسب، بل سمات الزمن الراهن ((المتسارع)) بإيقاعه وتأثيراته الضاغطة بحسب الفيلسوف الألماني هارتموت روزا، و((العنيف)) و((الديكتاتور)) بحسب عالِمة الاجتماع الفرنسيّة نيكول أوبيرت، حيث غدا ثمّة سباقٌ قائم على الفتح والامتلاك، وحيث أَصبح الطارئُ أو الملحُّ يحيل إلى زمنٍ اجتماعي مُختلّ، يضغطنا أو يضغط علينا من أجل التصرّف بسرعة أكبر بغية الاستفادة أكثر؛ حتّى أضحت لهذا الزمن الأسبقية على الإنسان، فيما نحاول نحن، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، الإمساك به أو كبحه.
تعامل سطحي
نعيش زمنا يحكمه التعامُل السطحيّ للناس مع التقنيّة إلى حدّ سيطرتها عليهم واستلاب عقولهم ومُصادرة حريّتهم، فيتأرجحون بين مدارَيْ ((الإنسان ذي البُعد الواحد)) (مقولة ماركوزه) و((الإنسان ذي المنطق المُغلَق)) (مقولة ليبوفتسكي).. وكلّما تأرجحوا بين هذين القطبيْن، أصبحوا أكثر خضوعًا للتقنيّة، وأسرى الفضاء الافتراضي.
ـ مفكرون وفلاسفة حذروا من الخراب الذي قد يأتي به العصر الرقمي.
ـ ثورة وسائل التواصل الاجتماعي حولت الكلام عن اختفاء الواقعي لمصلحة الافتراضي إلى حديث جدي.
ـ وسائل التواصل الاجتماعي غلبت فعل التواصل على حساب طبيعة موضوع التواصل.
ـ وسائل التواصل قادت إلى اللامبالاة تجاه المضامين ورمزت التافهين.
ـ الثورة الرقمية جعلت شركات التقنية المهتمة بالربح تشكل أذواق الناس وأنماط عيشهم.
ـ الثورة الرقمية تتحكم في نمط الحياة وتقود إلى حالة من الامتثالية والعبودية الإرادية.
ـ الثورة الرقمية تقضي على الحياة الخاصة حيث يتنازل الناس طوعًا عن حريتهم.
ـ العالم الافتراضي تضخم إلى حد طغيانه على العالم الواقعي وهدد بإلغائه.
ـ في العالم الافتراضي ينتصر الشكل السطحي على الأنماط الثقافية العميقة.
ـ التقنية ووسائل التواصل عززتا الفردانية غير المنضبطة وغير الأخلاقية أحيانا.
ـ الناس يتعاملون مع التقنية إلى حد سيطرتها عليهم واستلاب عقولهم ومصادرة حريتهم.

MENAFN15082024000089011017ID1108561121


إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.