(
MENAFN- Alghad Newspaper)
نجيب صعب
كانون الثاني (يناير) 2025 مع بداية سنة جديدة، نتساءل عن مدى الاستجابة الدولية والوطنية لتحديات البيئة والتغير المناخي، وعما إذا نحن اليوم في موقع أفضل مما كنا عليه؟ وهل تبني الحكومات سياساتها الإنمائية على أسس الإدارة المتوازنة للموارد الطبيعية، لتخفيف البصمة البيئية ضمانا لاستدامة التقدم الإنساني وسعادة مواطنيها أم لرفع أرقام النمو الاقتصادي فقط؟ لم يحمل العام الماضي أي حقائق بيئية ومناخية جديدة عدا تسارع وتيرة التدهور وفظاعة الكوارث الطبيعية التي يفاقمها تغير المناخ. وكأن كل المؤتمرات والقمم أصبحت تكراراً للكلام نفسه ومضيعة للوقت والمال والجهد، لتجنب الإجابة عن السؤال الأساسي: من يدفع الثمن؟
هنا أتذكر حين تحدثت قبل عشر سنوات في عمَان عن الاقتصاد الأخضر والإدارة المستدامة للموارد، في إطار تعزيز الكفاءة وترشيد الاستهلاك. قلت حينها إن هذا يبدأ من الثلاثية المترابطة، الماء والغذاء والطاقة، عبر تنفيذ سياسات تضمن وصول هذه الموارد والخدمات إلى الناس على نحو عادل. علينا إنتاج أكبر مقدار ممكن من الغذاء بأقل كمية من المياه، وتأمين المياه العذبة للاستخدام البشري والزراعي باستهلاك أقل ما يمكن من الطاقة، واستخدام الطاقة في المنازل والمكاتب والمصانع بأعلى معدلات الكفاءة، وإنتاج الطاقة بأساليب تخفف من الانبعاثات الضارة للمناخ والصحة البشرية معاً. ولأن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق بدون ترشيد الاستهلاك، ولأن التوعية والإرشاد لا يكفيان لتحقيق متطلبات الترشيد، فقد اقترحت في حينه رفع الدعم العشوائي الذي يشجع الهدر ويذهب معظمه الى الأغنياء، وتسعير المياه والكهرباء والمحروقات بما يدفع إلى الالتزام بالتدابير التي تحقق الكفاءة، إلزاميا وليس طوعيا.
حين عمدت الحكومة لاحقا إلى رفع أسعار المياه والكهرباء وسط احتجاجات شعبية، ذكر بعضُهم بحديثي عن الموضوع وما طالب به المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) دائما في تقاريره ومؤتمراته، وكأنهم يلوموننا على ما حصل. لكن فاتهم أن مطالبتنا كانت بخطة متكاملة، تؤمن خدمات مستقرة بكلفة عادلة. وقبل إلغاء الدعم العشوائي الذي يصل معظمه إلى الميسورين من أصحاب معدلات الاستهلاك الأعلى، كان المطلوب وضع تدابير لخفض تكاليف الإنتاج وتطبيق نظام الشرائح على المستهلكين، والدعم المباشر لغير القادرين.
ما كان صحيحا قبل عشرة أعوام ما يزال يصح اليوم. فلا أمل لنجاح أي سياسات عامة، بما فيها البيئية والمناخية، إذا افتقرت إلى شرط العدالة. ومن هنا نبدأ. فأين نحن اليوم من العمل البيئي والمناخي، في عالم متفجر تحكمه المصالح؟ وهل يمكن تحقيق العدالة البيئية والمناخية بمعزل عن الحق الإنساني، من فلسطين إلى أوكرانيا، مروراً بسورية ولبنان والعراق واليمن والسودان، من بين 92 بلداً متأثراً بالحروب والنزاعات حالياً، وهو الرقم الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية؟ وإذا نظرنا بتمعن، نجد سبباً جوهرياً وراء هذه النزاعات المسلحة هو الصراع على الموارد الطبيعية، خاصة المياه والنفط والغاز والمعادن والأراضي الخصبة. فالتفوق في النمو الاقتصادي يعتمد على هذه الموارد، وهو ما برح المعيار الطاغي، وليس التقدم الإنساني. وفي حين كان المطلوب أن يؤدي اعتماد مفهوم“التنمية المستدامة” إلى رعاية البيئة وتوازن الموارد الطبيعية لضمان تجددها، وهي أساس استمرار التنمية، يبدو أن جماعة النمو الاقتصادي الرقمي نجحوا في اختطافها، معتبرين أن استدامة التنمية تنحصر في استمرار ارتفاع حجم الاقتصاد. وعندما ساهمنا مع كلاوس توبفر في وضع شعار“البيئة من أجل التنمية”، كنا نقصد أن البيئة السليمة والنظيفة ورعاية الموارد لضمان تجددها شرطان للتنمية. لكن حين اعتبرت حكومات وشركات أن هذا الشعار يعطيها حقاً لاستنزاف الموارد وتدمير البيئة لتحقيق التنمية الاقتصادية المنفلتة، صرنا نخجل من علاقتنا في إطلاقه.
وإذ لم يبق في الإمكان مواجهة المد البيئي الهادر، الذي ازداد زخماً بعد اطلاقه قبل خمسين عاماً، بالرفض المطلق لتدابير رعاية البيئة والموارد، تم اختطاف مفهوم“التنمية المستدامة” الجديد لتغطية الجرائم البيئية. وينطبق الأمر نفسه على العمل المناخي، بعدما فرضت حقائق تغير المناخ نفسها كوقائع دامغة، وخسر المشككون، بمن فيهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حججهم. كما خسروا خط الدفاع الثاني، وهو أن المناخ يتغير وفق دورات طبيعية لا علاقة للنشاطات الإنسانية بها. ومع سقوط هذه الحجة أيضاً، والثبوت بالعلم والواقع أن النشاطات الإنسانية، ولا سيما تعاظم الانبعاثات الكربونية منذ الثورة الصناعية، هي المسبب الأساسي للتغير المناخي بوتيرة سريعة تفوق قدرة البشر والطبيعة على التأقلم، تمثل خط الدفاع الأخير بالادعاء أنه لن يمكن وقف التغيُر المناخي، لذا لا بد من القبول به كواقع، وإعطاء الأولوية للتعامل مع نتائجه، مع الاستمرار في الممارسات نفسها.
لكن حتى تدابير التأقلم ومواجهة آثار التغير المناخي التي لن يمكن وقفها تحتاج إلى استثمارات ضخمة، تفوق الاستثمارات المطلوبة لوقف الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري. وهذا يضع العالم في مواجهة التحدي المركزي، وهو توزيع التكاليف. هذه نقطة الخلاف المحورية بين مجموعات الدول المتقدمة الغنية، والدول النامية، والدول المنتجة للنفط. كما هي موضوع خلاف داخل هذه المجموعات نفسها. فكل مجموعة تعمل لرمي المسؤولية الأكبر على الآخرين، وشراء مزيد من الوقت للاستمرار في النمو الاقتصادي بأقل ما يمكن من الضوابط والقيود.
ولا يقل خطراً عن التملص من التزامات العمل المناخي اتخاذُ بعض الحكام من تغيُر المناخ حجةً لتبرير فشل السياسات الإنمائية. فإدارة الموارد على نحو متوازن يكفل تجددها، والحد من التلويث وإنتاج النفايات، وإنشاءُ البنى التحتية الملائمة، مهمات ضرورية في جميع الحالات. ذلك أن تغيُر المناخ لا يبرر، على سبيل المثال، الحرائق الناجمة عن إهمال الإدارة السليمة للغابات والسماح بالتمدد العمراني العشوائي إلى مناطق حساسة. وترشيد إنتاج واستهلاك المياه والطاقة والغذاء يسبق التذرُع بالمناخ لتبرير التقصير.
*الجزء الأول من مقال كتبه نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، استناداً إلى كلمة ألقاها في“المؤتمر الوطني للتغير المناخي والاقتصاد الأخضر”، الذي عقد أخيراً في عمان. الجزء الثاني غداً.
MENAFN18012025000072011014ID1109104749
إخلاء المسؤولية القانونية: تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.