(
MENAFN- Alghad Newspaper)
ريتشارد هاس* – (إندبندت عربية) 9/1/2025
في ظل التوترات المستمرة في الشرق الأوسط، تبرز إيران كلاعب رئيس يسعى إلى الهيمنة على المنطقة، معتمدةً على برنامجها النووي ودعمها للجماعات المسلحة. هذا الوضع يثير تحديات كبيرة للأمن الإقليمي والدولي يستدعي تحركات دبلوماسية وسياسية حازمة للتعامل مع تهديداتها واستغلال فرصة حاسمة تلي تراجع قوة "حزب الله" و"حماس" وسقوط نظام بشار الأسد.
***
من الصعب التفكير في دولة فقدت نفوذها بالسرعة التي فقدته بها إيران. كانت حتى وقت قريب تعتبر ربما أهم
لاعب إقليمي في الشرق الأوسط، وأكثر تأثيراً من مصر أو إسرائيل أو السعودية أو تركيا. ولكن خلال بضعة أشهر فقط، انهار بنيان النفوذ الإيراني. وأصبحت إيران اليوم أوهن مما كانت عليه منذ عشرات السنين، وربما منذ حربها مع العراق التي امتدت عقداً من الزمن أو حتى منذ الثورة في العام 1979.
أعاد هذ الضعف فتح الجدال حول المقاربة المثلى التي ينبغي على الولايات المتحدة وشركاؤها تبنيها إزاء التحديات التي تمثلها إيران. ويجد بعض هؤلاء في هذه اللحظة فرصة سانحة لحل جوانب هذا التهديد كافة -سواء قدرات طهران النووية أو نشاطاتها الإقليمية الخبيثة- بضربة واحدة، بينما يضيف آخرون إلى ما سبق تسريع إنهاء الجمهورية الإسلامية تماماً. لكن المستشارين المخضرمين يحذرون من مغبة استخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، وكذلك من المحاولات الرامية إلى القضاء على النظام السياسي القائم واستبداله بشيء أفضل.
لا يقتصر النقاش على تحديد الأهداف فحسب، بل يشمل ترتيب الأولويات، حيث المفاضلات لا مفر منها: ما الذي يجب أن يأتي أولاً؟ أما في ما يتعلق بوسائل العمل، فالمطروح ليس الاختيار بين الدبلوماسية أو القوة بقدر ما هو طريقة جمع وترتيب استخدام هاتين المقاربتين معاً. وأفضل المقاربات هي تلك التي تميل نحو تحقيق الهدف الطموح المتمثل في إعادة تشكيل سياسة الأمن القومي الإيراني عن طريق الدبلوماسية، وإنما دبلوماسية تسير على خلفية القدرة والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية في حال رفضت طهران معالجة هواجس الولايات المتحدة والغرب بصورة كافية.
الأخطار كبيرة. والقرارات المتخذة ستكون لها تداعيات كبيرة -ليس على الشرق الأوسط فقط، بل أيضاً على العالم بأسره، بما في ذلك أسواق الطاقة. وبالنسبة للولايات المتحدة، ستحدد هذه القرارات مدى قدرتها على تحقيق التحول الذي كثيراً ما نوقش، والمتمثل في إعادة تخصيص الموارد العسكرية بعيداً عن الشرق الأوسط ونحو أولويات أخرى على رأسها ردع العدوان الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
صعود وسقوط
استمدت طهران نفوذها في المنطقة بصورة عامة من تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية والمليشيات في غزة والعراق ولبنان وسورية واليمن، وغيرها. وقف هؤلاء الوكلاء ضد إسرائيل (وضد أي تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين)، وهددوا المصالح الأميركية والغربية. وكانوا إجمالاً الوسيلة التي حاولت إيران من خلالها إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقاً لتصورها. وضاعفت هذه الإستراتيجية غير المباشرة النفوذ والتأثير الإيراني عبر المنطقة، فيما أتاحت لطهران أن تتجنب الانتقام المباشر أو تخفيفه في أقل تقدير.
كانت إيران من أكبر المستفيدين من حرب الولايات المتحدة على العراق في العام 2003، حيث أطاحت الحرب بصدام حسين، ومحت في الوقت نفسه حكماً سنياً في بغداد كان مستعداً وقادراً على موازنة طهران الشيعية. وتمكنت إيران من استخدام فوضى الاجتياح وتقاربها مع الغالبية الشيعية في العراق لتحل مكان الولايات المتحدة باعتبارها القوة الخارجية صاحبة النفوذ الأكبر داخل البلاد.
وكثيراً ما كان لإيران مركز قوي في لبنان حيث يشكل الشيعة نسبة كبيرة من السكان، إن لم نقل غالبيتهم (جرى آخر تعداد للسكان منذ عقود). وقد تلقى "حزب الله"، وكيل طهران في البلاد، دعماً أساساً من إيران على الصعد كافة، مكنه من التمتع بجهوزية أعلى من خصومه المحليين، وتحرك باستقلالية شبه تامة في لبنان، فكان الدولة داخل الدولة بامتياز. وبفضل موارده العسكرية، وأهمها عشرات آلاف الصواريخ، وقربه من حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل، تمكن "حزب الله" من ردع التحرك الإسرائيلي ضد إيران، إذ اضطرت إسرائيل إلى احتساب قدرة الجماعة الإرهابية على الانتقام من مواطنيها وأراضيها.
ثم هناك "حماس" على مدار عقود عدة، حيث قدمت إيران الدعم المادي والتدريب والسلاح للجماعة، على رغم كونها سنية، بهدف تعزيز النهج الرافض للتسوية مع إسرائيل. وفي العام 2006 فازت "حماس" بالانتخابات في غزة، متغلبة على السلطة الفلسطينية، فأصبح لديها ولطهران قاعدة لشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل ومواجهة السلطة الفلسطينية.
أما في سورية، فبذلت إيران، ومعها روسيا، أقصى الجهود لإسناد نظام بشار الأسد عندما شارف على الانهيار عقب اندلاع "الربيع العربي". وبقي النظام في الحكم بعد ذلك لأكثر من عقد، مما حافظ على الطريق البري الرئيس لإرسال الأسلحة إلى "حزب الله"، وظلت إسرائيل مطوقة بقوى معادية تمتلك إيران سلطة كبيرة عليها -هلال شيعي يمتد من إيران حتى سورية ولبنان وغزة.
كما استثمرت إيران في تعزيز قوة الحوثيين، الجماعة الشيعية في اليمن، وإحدى أطراف الحرب الأهلية التي تدور في ذلك البلد (التي لا تحارب الحكومة فحسب، بل القوات السعودية والإماراتية كذلك). منذ بداية الحرب في غزة، شن الحوثيون هجمات صاروخية على السفن في البحر الأحمر عطلت التجارة العالمية وأرغمت سفن الشحن وناقلات النفط على الإبحار حول أفريقيا، وهو طريق أطول وأكثر كلفة. حتى أن الحوثيين هاجموا إسرائيل بصورة مباشرة أحياناً، وحاولوا استهداف سفن البحرية الأميركية.
لسخرية القدر، أزفت بداية نهاية عصر الهيمنة الإيرانية على المنطقة من خلال حدث بدا كأنه انتصار للنظام: هجمات "حماس" يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ما تزال درجة تورط إيران في الهجمات غير واضحة، لكن المجزرة التي أسفرت عن مقتل نحو 1.200 إسرائيلي وأسر 200 رهينة تقريباً لم تكن لتقع لولا علاقة إيران طويلة الأمد بـ"حماس" ودعمها لها. ومثلت الهجمات إحراجاً لإسرائيل التي لم تكن مستعدة لها، فيما سمحت لـ"حماس" بأن تزعم لبعض الوقت أنها الجهة الفلسطينية الوحيدة المستعدة والقادرة على مجابهة إسرائيل، كما شكلت هدية ليس لـ"حماس" فحسب، بل لداعمتها الأساسية، إيران.
وبعد أكثر من العام على ذلك الحدث، انتهى ذلك الفوز التكتيكي لإيران بهزيمة إستراتيجية، إذ شنت إسرائيل عمليات عسكرية متواصلة أضعفت "حماس"، لدرجة أنها لم تعد قوة قتالية فعالة قادرة على شن هجوم مماثل للسابع من تشرين الأول (أكتوبر). وأتبعت إسرائيل هذه العمليات بسلسلة من الهجمات على "حزب الله" قضت على قيادته ومخابئ أسلحته، فأضعفته بصورة كبيرة وأجبرته على التخلي عن إصراره المتواصل على ربط أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل بوقف لإطلاق النار في غزة.
أسهمت هذه التطورات في الإطاحة بالأسد، فلم يعد "حزب الله" في وضع يسمح له بدعم النظام، الذي استند إلى الجماعة بصورة كبيرة من أجل الحفاظ على موقع السلطة. وفيما تصب روسيا مواردها وتركيزها على أوكرانيا، نجحت القوات المعادية للأسد بقيادة الإسلامويين وبدعم تركي، من إلحاق هزيمة سريعة بالسلالة التي حكمت سورية بقبضة من حديد طوال أكثر من نصف قرن، وانتهزت إسرائيل أيضاً الفوضى في سورية لتقوم بتدمير الجزء الأكبر من أصول الأسد العسكرية.
كما أن إيران نفسها اليوم أضعف من أي وقت مضى. في العام 2024 شنت هجومين مباشرين على إسرائيل، الأول في نيسان (أبريل) والثاني في تشرين الأول (أكتوبر)، استخدمت فيهما مزيجاً من المسيرات والصواريخ رداً على الضربات الإسرائيلية لمواقع إيرانية في سورية وعلى اغتيال أحد زعماء "حماس" في طهران. ولم تُحدث الضربات الإيرانية أضراراً تذكر، بينما ردت إسرائيل عليها مرتين، مدمرة دفاعات جوية ومخازن ذخائر وعناصر حيوية في قاعدة الصناعات الدفاعية الإيرانية، لتثبت بذلك قدرتها على التحرك العسكري في الأجواء الإيرانية بحرية شبه تامة.
بين الرغبة والحاجة
ولكن، على الرغم من هذه الانتكاسات، هناك ثلاث نقاط في سلوك إيران تظل تستدعي القلق المستمر. الأولى هي دعمها للوكلاء، الذي حاز النصيب الأكبر من الاهتمام خلال الأشهر الـ15 الماضية. والنقطة الثانية هي برنامجها النووي، إذ زادت إيران من كمية اليورانيوم المخصب في حوزتها ومن مستوى التخصيب. وتشير التقديرات إلى أنها قد تكون على بعد أسابيع فقط من إنتاج كمية كافية من اليورانيوم المستخدم في الأسلحة النووية تسمح لها بصناعة 12 سلاحاً نووياً. وسيستغرق تطوير الأسلحة الفعلية وقتاً أطول (من ستة أشهر إلى عام)، على الرغم من أن هذا الإطار الزمني قد يتسارع بمساعدة شركاء ذوي خبرة، مثل الصين أو كوريا الشمالية أو باكستان أو روسيا.
أما مصدر القلق الثالث، فهو الوضع الداخلي في إيران، حيث يفرض قادة إيران سلطتهم بالإكراه. صحيح أن البلاد تعقد انتخابات، لكن المرشحين المحتملين يخضعون للتقييم ويستبعد كثيرون من منهم من السباق على أساس عدم أهليتهم للمشاركة فيه، بينما يحتفظ رجال الدين غير المنتخبين بالسلطة النهائية. كما أن الحقوق السياسية مقيدة جداً بالنسبة لكل الإيرانيين، فيما تدير الحكومة الإنترنت ويتعرض معارضو النظام للاعتقال التعسفي وتفرض قيود خاصة على النساء.
أفضل السيناريوهات هو أن تسعى الولايات المتحدة إلى علاج مصادر القلق الثلاثة، فتعمل على إضعاف الدعم العسكري للجهات الوكيلة؛ وتضع سقفاً للبرنامج النووي الإيراني يكون قابلاً للتحقق ويوفر إنذاراً كافياً إذا حاولت إيران العمل باتجاه تحقيق اختراق نووي؛ وتخلق مساحة سياسية وشخصية أكبر يمكن للمواطنين الإيرانيين التحرك فيها.
لكن محاولة النجاح في المجالات الثلاثة- مساعي إنهاء البرنامج النووي الحكومي، وإنهاء دعم الوكلاء عسكرياً، ووضع حد لقمع الشعب الإيراني- ستبوء بالفشل بصورة شبه مؤكدة. على السياسة الخارجية أن تسعى إلى تحقيق الممكن بقدر المرغوب، لكن اعتماد مقاربة تسعى إلى تحقيق هذا الطموح هو أمر غير واقعي، وأحد أسباب ذلك هو أن بعض العناصر الضرورية لتحقيق غاية أو اثنتين لن تتوافق على الأرجح مع تحقيق الغاية الثالثة.
يجب أن يحتل موضوع البرنامج النووي الأولوية بالنسبة لصانعي السياسات الأميركيين. فامتلاك إيران للأسلحة النووية ولمجموعة من منظومات إيصال هذه الأسلحة سيضعها في موقع يمكنها من تشكيل خطر وجودي على عدد من جيرانها وعلى شركاء الولايات المتحدة الوثيقين في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل. كما سيسمح لها بانتهاج سلوك أكثر عدوانية -من خلال وكلائها أيضاً- لاعتقادها بأن قدراتها النووية ستجعل الآخرين يترددون قبل مهاجمتها بصورة مباشرة. وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد كذلك بأن امتلاك إيران للسلاح النووي سيدفع دولاً أخرى في المنطقة، من بينها السعودية وتركيا، إلى تطوير أو امتلاك أسلحة نووية خاصة بها. وسيزيد هذا التطور من احتمالات نشوب صراعات في المنطقة (وإن كانت لمجرد وضع حد لهذه المساعي)، ويضاعف من احتمالات استخدام الأسلحة النووية بالفعل. وسوف تزداد صعوبة جلب الاستقرار والمحافظة عليه إذا تضاعف عدد صانعي القرار وكانت مخازن السلاح النووي عرضة لضربة وقائية أولى.
دفع بعض واضعي السياسات والمحللين من ناحية أخرى باتجاه إعطاء الأولوية لتغيير النظام. وفكرة هذه الحجة هي أن نظامًا ديمقراطيًا مواليًا للغرب في إيران سيتخلى عن الأسلحة النووية (ويفعل ذلك بصدق)، ويبتعد عن دعم الوكلاء. ومع أن هذا المنطق فيه بعض الصحة، فإنه ليس من المؤكد أن تتمكن واشنطن من تسهيل عملية تغيير النظام. ولا شك في أنها لا تملك إطاراً واضحاً لعملية كهذه مهما بلغ ضعف الجمهورية الإسلامية حالياً.
تتنوع أشكال الأنظمة الاستبدادية، وهي لا تتساوى من حيث الهشاشة، لكن تلك الأنظمة الهشة فعلاً من بينها -وتخطر في بالي سورية في ظل حكم الأسد وإيران نفسها في زمن الشاه وليبيا خلال حكم القذافي والعراق تحت سلطة صدام- عادة ما تتميز ببعض القواسم المشتركة: حكم الفرد بدل الجماعة؛ وغياب المؤسسات؛ والاعتماد على الإكراه أكثر من الولاء على نطاق واسع؛ وغياب الآليات المقبولة لتداول السلطة؛ وتركيز قوات الأمن على ردع عمليات الانقلاب أكثر من خوض حروب تقليدية. لكن إيران اليوم مختلفة. لا شك في أن القيادة غير محبوبة حالياً، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الإيرانيين يعارضون الحكم. وتشير بعض التقارير إلى وجود انتقاد علني ولافت لكل الجهود والأموال التي أنفقت على نظام الأسد بينما يعاني مواطنو البلاد. هذه دولة ثرية بموارد الطاقة لكنها تعاني نقصاً في الطاقة. لكن هذا لا يعني أن الحكومة مع النظام السياسي الذي تمثله تفتقر إلى دعم وافر في الداخل، والأهم من ذلك هو أن النظام يتمتع بقواعد دعم داخلي حقيقية مستعدة لاستخدام العنف دفاعاً عنه. وفي إيران أيضاً مجموعة متطورة من المؤسسات المتداخلة تشمل "مجلس الشورى" و"مجلس خبراء القيادة" و"مجلس صيانة الدستور" و"مجلس تشخيص مصلحة النظام" وسلطة قضائية وغيرها، تشهد على هذا عملية خلافة رئيس البلاد بعد مصرعه في حادثة تحطم مروحيته، والتي حدثت بطريقة منظمة نسبياً.
كبداية، يمكن أن تلجأ سياسة تغيير النظام إلى فرض عقوبات وتقديم دعم اقتصادي وعسكري سري لخصوم النظام وعدم الاعتراف بالنظام والاعتراف بالبديل السياسي عنه، وتوظيف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي للتأثير في بيئة الإعلام، فضلاً عن التدخل العسكري. لكنّ ما يخبرنا التاريخ به هو أنه ليس من المؤكد أن تحقق هذه الأدوات بالفعل التأثير المأمول منها، لا سيما إذ كان معيار النجاح في هذا الإطار هو استبدال السلطات الموجودة بشيء أفضل (وإن كان أفضل من حيث توافقه مع المصالح الأميركية فقط) ضمن فترة زمنية محددة.
في هذه الأثناء، يظل وقف البرنامج النووي الإيراني ووقف دعم إيران للوكلاء المزعزعين للاستقرار هما الأولوية القصوى. وكما كان الحال مع سياسة الاحتواء التي انتهجتها واشنطن خلال الحرب الباردة- التي أسهمت، رغم تركيزها على التأثير في السياسة الخارجية السوفياتية، في انهيار النظام السوفياتي بعد أربعة عقود- يجب أن تعطى الأولوية لتقييد قدرات إيران والتأثير في سلوكها في الخارج. وربما تؤثر هذه الجهود في التطورات الداخلية، ولكن يجب أن يكون ذلك أولوية أقل أهمية.
خيارات خاطئة
في النقاشات التي تدور حول تحقيق هذه الغايات، غالباً ما تطرح الدبلوماسية واستخدام القوة العسكرية باعتبارهما بديلين متناقضين. لكن من المفيد أكثر التفكير بهما باعتبارهما يكملان بعضهما بعضاً، ويمكن تنسيق استخدام أحدهما مع الآخر. فلدى الدبلوماسية المدعومة بتهديد جاد باستخدام القوة فرصة أفضل بكثير لتحقيق النجاح مقارنة بالدبلوماسية من دون هذا التهديد. بينما يكون استخدام القوة العسكرية أكثر دعماً -داخلياً ودولياً- إذا تم اللجوء إليها بعد استنفاد الخيارات الدبلوماسية المعقولة. وكما لاحظ جورج كينان، واضع سياسة الاحتواء، بعبارة ساخرة، فإنه: "لا يمكنكم أن تتخيلوا مدى مساهمة وجود قوة مسلحة وهادئة في الخلف في إضفاء جو من التهذيب واللطف بصورة عامة على الدبلوماسية".
يجب أن تستكشف الدبلوماسية إمكانية التوصل إلى صفقة شاملة تحتم على إيران الموافقة على وضع سقف مفتوح المدى يمكن التحقق منه على برنامجها النووي، بصورة تحدد كمية المواد المخصبة التي يمكنها امتلاكها ودرجة تخصيبها، ويضمن اكتشاف أي نشاط أو قدرة نووية محظورة قبل تمكنها من إنتاج سلاح نووي. ويجب أن يشمل الاتفاق أيضاً منع تقديم أي دعم عسكري إيراني للجهات الفاعلة من غير الدول مثل "حزب الله" و"حماس" والحوثيين، ويقيد برنامج الصواريخ البالستية الإيراني. وبالتالي يختلف هذا الاتفاق بصورة كبيرة عن "خطة العمل الشاملة المشتركة" التي أبرمت في العام 2015 وفرضت حدوداً زمنية على القيود النووية وتغاضت عن سلوك إيران في المنطقة.
سوف يسمح مثل هذا الاتفاق لإيران بالاحتفاظ ببرنامج للطاقة النووية، وإن في إطار قيود شديدة ومراقبة تسمح بالتدخل، كما يسمح لها بتقديم دعم سياسي واقتصادي (وإنما غير عسكري) للاعبين الإقليميين، ويخفف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها كثيراً (ويمكن حتى تخفيف أو إزالة القيود المتبقية إذا منحت طهران حرية أكبر للإيرانيين). وفي المقابل تقبل الولايات المتحدة بالحكومة الإيرانية الحالية وتكون مستعدة للاعتراف بها وتتخلى عن أي محاولة لتغيير النظام. وينبغي على واشنطن أن تكون مستعدة لطرح هذا التدبير على الكونغرس في إطار اتفاق رسمي كي تضمن لإيران أنه سيظل ساري المفعول حتى لو تغيرت إدارة البلاد.
لماذا قد توافق طهران على ذلك؟ بداية، ترزح الحكومة تحت ضغوط هائلة. فقد تعرضت مكانتها الإستراتيجية لإضعاف خطر، وهي عرضة للهجمات العسكرية بصورة كبيرة. كما انخفضت قيمة عملتها بصورة كبيرة وانخفضت أسعار الطاقة، بينما لا تكفي الطاقة في الداخل لتدفئة الشقق واستمرار الإنتاج في المصانع. كما أن الاستياء الشعبي المرتفع أساساً، ازدادت حدته عقب الأحداث في سورية. وغذت العقوبات المفروضة بقيادة الولايات المتحدة الضائقة الاقتصادية في إيران، وبالتالي قد يبدو وعد تخفيف وطأة هذه العقوبات جذاباً لأنه يخفف الضغط الداخلي على النظام.
من منظور طهران، سيكون الهدف الأكثر أهمية هو الحفاظ على النظام الذي أرست أسسه ثورة العام 1979. وقد حدثت تحولات في السياسة سابقًا بسبب هذه الغاية: في العام 1988، قبل الخميني وضع حد للحرب الإيرانية مع العراق من دون الانتصار فيها، وهو قرار شبهه بتجرع كأس السم من أجل إنقاذ إيران. والوضع الحالي مشابه للوضع آنذاك: يمكن للولايات المتحدة أن ترسل إشارة باستعدادها للتعايش مع النظام الحالي إذا قبل فرض قيود واسعة النطاق على طموحاته النووية ونشاطاته الإقليمية. وهناك مؤشرات متنامية على احتمال انفتاح النظام الإيراني على الخوض في اتفاق مماثل، حيث كتب نائب الرئيس الجديد للشؤون الإستراتيجية في "فورين أفيرز" (حتى قبل أن يتفاقم وضع إيران عقب الأحداث في سورية) أن الحكومة "تتطلع إلى إجراء مفاوضات على قدم المساواة حول موضوع الاتفاق النووي، وربما أكثر من ذلك"، وأوضح الرئيس الجديد أولويته المتعلقة بإنعاش اقتصاد البلاد.
طرح بعض المحللين فكرة التخلي عن الجهود الدبلوماسية المماثلة واختيار القوة العسكرية عاجلاً وليس آجلاً. وقد يستهدف الهجوم المطروح المنشآت المرتبطة بالبرنامج النووي على أمل تدمير الجزء الأكبر من البرنامج، أو تدميره كله، وتحفيز التغيير السياسي في طهران. صحيح أنه يمكن تدمير الجزء الأكبر من البرنامج النووي الحالي، وإن لم يتسن تدميره كله، أو تعطيله على الأقل. ولكن حتى هذا الحل ليس دائماً، لأن إيران اكتسبت الخبرة النووية التي لا يمكن تدميرها بالقوة. وقد يؤدي نجاح العملية العسكرية إلى إعادة جهود طهران سنوات إلى الوراء، لكنها قد تختار إعادة بناء برنامجها في مواقع أكثر تحصيناً والتي تكون بعيدة عن مرمى ذخائر الولايات المتحدة أو إسرائيل. وقد تستخدم إيران هذا الهجوم لتبرر أكثر حاجتها إلى امتلاك أسلحة نووية. وحتى بعد إضعاف وكلائها ودفاعاتها، يمكن لإيران الانتقام من إسرائيل باستخدام صواريخها البالستية المتبقية، وكذلك من منشآت النفط والغاز التابعة لجيرانها، وقسم كبير منهم هم شركاء حيويون للولايات المتحدة في المنطقة، وشن ضربات إرهابية على أهداف تابعة للولايات المتحدة. وعندها سترتفع أسعار النفط والغاز كثيراً وتضاعف الضغوطات الناجمة عن تضخم الأسعار عالمياً وتخفض النمو الاقتصادي. في المقابل لا يمكن معرفة آثار هذا السيناريو في الداخل، إذ قد يسفر عن رد فعل وطني والتفاف حول النظام، كما يمكن أن يشجع على خروج مظاهرات مناوئة للنظام. وعالمياً قد يؤدي هذا الهجوم الاستباقي إلى اضطرابات، حيث قد يستند آخرون إلى هذا الهجوم كسابقة لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد خصومهم.
دفع آخرون بضرورة فرض سياسة الضغط الأقصى التي تستخدم العقوبات الاقتصادية بصورة أكبر. ولكن لا وجود لأي دليل في تاريخ العقوبات على أنها قد تحقق طموحات كبيرة، ناهيك عن تحقيقها في إطار زمني محدد. مرة أخرى، يمكن، لا بل ينبغي أن تكون العقوبات جزءاً من سياسة متكاملة، مدعومة ببعض التدابير الإضافية لزيادة الضغط على النظام، في حين قد يشكل الوعد بإزالتها حافزاً إضافياً لتغيير سلوك النظام، بما في ذلك في مجال حقوق الإنسان والسياسة الداخلية.
ستكون المقاربة الصحيحة بالنسبة لواشنطن هي البدء بالجهد الدبلوماسي مع التهديد باحتمال استخدام القوة، ثم استخدامها بالفعل في حال طورت إيران نشاطاتها النووية أكثر من حد معين، أو حاولت مد وكلائها مرة أخرى بأسلحة جديدة. وسيكون الهدف من طرح هذا المزيج هو التعامل مع الأولويتين القصويين بالنسبة إلى الولايات المتحدة في ما يتعلق بسلوك إيران، والأكثر عرضة للتأثر بالتدخل الخارجي. ومن المرجح أن يكون عرض تخفيف العقوبات إلى درجة معينة في مقابل الامتناع عن التصعيد في مجالي الأسلحة النووية والأنشطة الإقليمية كفيلاً بتحسين فرص النظام على المدى القصير. ولكن يجب تقديم أولويات أهم على تحقيق هذه الغاية.
الفرص الإستراتيجية لا تدوم إلى الأبد
أوجدت التطورات في الأشهر الـ15 الأخيرة فرصة غير متوقعة لكبح جماح إيران، ويجب عدم تبديد هذه الفرصة. صحيح أن الموضوع يشكل مفارقة كبيرة بما أن الرئيس دونالد ترمب هو الذي كان قد سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع في العام 2015، لكن يمكنه التوصل إلى اتفاق جديد بصيغة أفضل شبيهة، بما فعله عندما تفاوضت إدارته الأولى مع المكسيك وكندا لاستبدال "اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية" (نافتا) بـ"اتفاق التجارة بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك وكندا" (أوسمكا). كما أن إبرام اتفاق جديد سيلغي ضرورة استخدام قوة عسكرية على نطاق واسع، وهو الأمر الذي اعتاد ترمب على مقاومته.
إن المسألة ملحة. فقد تحاول إيران قريباً إعادة بناء قواعدها الإقليمية ودعم وكلائها في المنطقة. وبعد تدمير وسائل ردعها التقليدية التي كانت تستخدمها، قد تقرر إيران أن السلاح النووي وحده هو القادر على حمايتها من إسرائيل والولايات المتحدة. وقد يدوم الألماس للأبد لكنّ الفرص الإستراتيجية لا تدوم. وكما يعرف مؤلف كتاب "فن الصفقة" جيداً، فإنه يجب اقتناصها بسرعة.
*ريتشارد هاس: رئيس مجلس العلاقات الخارجية وهو كبير المستشارين في "شركة سنترفيو للاستثمارات المصرفية" Centerview Partners وكاتب نشرة إخبارية أسبوعية بعنوان "في الديار وفي الخارج" Home & Away. المقال مترجم عن "فورين أفيرز" حيث نشر في 6 كانون الثاني (يناير) 2025.
MENAFN17012025000072011014ID1109102492