Thursday, 16 January 2025 07:00 GMT



رحمك الله يا حمامة الحرمين

(MENAFN- Al Watan) أكتب هذه السطور ولم أفرغ بعدُ من تلقي سيل التعازي، ولا يزال الألم والحزن يعتصرني على فراقك يا والدي الحبيب وتاج رأسي ((مصطفى بن مهدي الدباغ)) -رحمه الله- هاتفي لا يتوقف من كثرة الاتصالات ممن عرفوك وممن لم يعرفوك؛ ولكنهم اتفقوا جميعًا على محبتك التي وضعها الله في قلوبهم، من حسن تعاملك وكرم أخلاقك، ولين جانبك في مواقف كثيرة رواها لنا الناس: فتارةً تغيث ملهوفًا، وتارةً تعين مكروبًا، وتارةً أخرى تُطعم جائعًا أو تُسقي عطشانًا أو تُرشد جاهلًا، وهكذا اجتمعت كل أعمال البر في شخصك المتواضع، فكان لك من اسمك نصيب، فاصطفاك الله لخدمة أقدس البقاع.
كنت رائدًا من روّاد أعمال الخير التطوّعية لقاصدي الحرمين الشريفين من الحجاج والمعتمرين، ولم تبدأ قصتك مع أعمال الخير والإرشاد قبل عقدين ونصف، عندما تقاعدت من عملك العسكري، كما يظن البعض؛ بل بدأت قبل ذلك بأعوام طويلة حينما كنت على رأس العمل، لا تترك وقت فراغك إلا لأعمال البر وخدمة زوّار المسجد النبوي الشريف، فطوال أعوام خدمتك في الأمن العام، منذ تخرجك في ستينيات القرن الماضي من كلية قوى الأمن ((التي أصبحت كلية الملك فهد الأمنية))، تدرّجت بين عدة إدارات بشرطة منطقة المدينة المنورة، مرورًا بقيادتك لشرطة المسجد النبوي الشريف، وحتى آخر منصب شغلته مديرًا لشرطة منطقة المدينة المنورة بالنيابة.
لا أكاد أذكر يومًا رأيتك فيه تخلد للراحة؛ إذ كنت تبذل جلَّ وقتك في تقديم يد العون والمساعدة وأعمال البر لزوّار المسجد النبوي الشريف، وكنتُ أُعينك في بعضها كتوزيع الوجبات للصائمين وسقيا مياه زمزم والمشروبات الساخنة والمرطبات، وأذكر أنه، وبإذنٍ من رئيس المحاكم الشرعية وإمام وخطيب المسجد النبوي الشريف آنذاك، الشيخ عبدالعزيز بن صالح -رحمه الله-، كنتَ تتخذ من مقر المحكمة الشرعية -قرب باب السلام بالمسجد النبوي- مكانًا لتخزين الوجبات والأطعمة والمرطبات، تمهيدًا لتوزيعها عقب صلاة المغرب في شهر رمضان المبارك، وعقب صلاة الفجر والعشاء في سائر العام، وقد كان الشيخ يكنّ لك محبةً عظيمةً ومكانةً خاصة، لما رأى فيك من حب الخير والعطاء، فكان دائمًا يثني عليك وعلى ما تقدمه لخدمة زوار المسجد النبوي الشريف.
وأذكر أنه في مرة دعا لك أمام المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله-، حينما تقدمتَ حاملًا في يدي هدية لتقديمها بعد صلاة الجمعة للملك الراحل وتهنئته باسم أهالي المدينة المنورة على وضع حجر أساس التوسعة التاريخية للمسجد النبوي الشريف، فذكر الشيخ للملك أنني ابن السيد مصطفى الدباغ من أهل الخير، وأثنى عليك ودعا لك.
وبعد تقاعدك، انتقلتَ يا والدي الحبيب إلى مكة المكرمة ولازمتَ والدتك -جدتي رحمها الله- في أيام مرضها، ورافقتها في رحلتها العلاجية بالولايات المتحدة، ثم عدتَ حاملًا نعش والدتك مرتديًا ملابس الإحرام، في هيئةٍ مهيبةٍ بعد سفرٍ وعناءٍ طويل، لتواريها الثرى، ورغم ذلك الفقد الكبير، لم تخلع ملابس الإحرام للراحة أو الاستجمام؛ بل شمَّرت عن ساعديك وكرَّست وقتك للعمل التطوعي في المسجد الحرام والمشاعر المقدسة، ناقلًا تجربتك الرائدة في المدينة المنورة إلى أطهر بقعة على وجه الأرض، ليكتسب عملك التطوعي بعدًا جديدًا اتسم بالاحترافية والاستعانة بمتطوعين لتقديم أقصى ما يمكن من خدمات الخير لضيوف بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين.
وقد أشاد بك فضيلة الشيخ، محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- في أحد دروسه بالمسجد الحرام، قائلًا: ((قد أجرى الله على يديك خيرًا كثيرًا لبيته الحرام يا شيخ مصطفى)).
ولم تتوانَ في طرق أبواب المسؤولين لإيصال ملاحظاتك البنّاءة، فتم الأخذ بمعظمها وتطبيقها، مثل اللوحات الإرشادية بعدة لغات في المسجد الحرام والمشاعر المقدسة، وترقيم بوابات المسجد الحرام، وتقديم خدمات النقل بالعربات للجنائز تسهيلًا على ذوي المتوفّين والمعزّين، وأكياس حمل الأحذية عند مداخل المسجد الحرام.
وهذا غيضٌ من فيض أعمالك الجليلة التي واصلتَها يا والدي الحبيب، حتى أقعدك المرض قبل عامين، فلازمتَ الفراش، ونخر الداء في جسدك النحيل، حتى توفاك الله فجر يوم الاثنين الثالث عشر من شهر رجب الأصب، أول الأيام البيض التي لا أذكر طوال حياتي أنك فوّت صيامها قط.
اختارك الله إليه في يوم الإثنين، وأول الأيام البيض، فجمع لك الحسنيين، وألحقك بوالدتك التي واريتها الثرى مُحرمًا ومُلبّيًا، بعثتَ ملبّيًا للنداء جوارها وجوار خير نساء الأرض، أم المؤمنين السيدة خديجة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم.
وأنا أواريك الثرى، أدخلتُ يدي في جيبي فوجدتُ قارورة ماء زمزم لم أقصد وضعها هناك؛ وإنما أُلهمتُ في تلك اللحظة بذلك، فسكبتُها على قبرك، وكم أحببتَ ماء زمزم، وكم أوصلته للقاصي والداني، لمن يقدر على جلبه ومن لا يقدر، ابتغاء الثواب والدعاء.. وهكذا حضر الماء الذي أحببته، مشيّعًا ومودّعًا لك.
سقى الله قبرك يا والدي الحبيب، وتغمّدك بهواطل رحمته ورضوانه، وصبّرنا على فراقك وألهمنا السلوان.. ولترقد هانئًا قرير العين في مثواك بمعلاة الحجون:
أكرم به مثوى الكرام وخير
النساء وأهل الحطيم وزمزم
أكرم به مثوى الرجال وسادة
الدنيا وأهل الحل والحرم
وقفة
وما الرزيّةُ فقدُ المالِ أو ولدٍ
وإنّما الفقدُ فقدُ القانتِ الوَجِلِ
شيخٌ على العصرِ قد ألقى مِظلّتهُ
بالعلمِ والحلمِ في سهلٍ وفي جبلِ
صدرُ المكانِ إذا ما اصطفتِ الأقوامُ
نورُ الزمانِ شبيهُ العارضِ الهطِلِ
ماذا يُعدّدُ فضلًا طابَ جوهَرُهُ
يكفي لنا أخذُ ما يروي أو يقُلِ
ماذا نقولُ سوى ما قالَ من صبروا
عندَ المصيبةِ أو في هجمةِ الأجلِ
لله إنّا وإنّا راجعون لهُ
والأمرُ أمرُهُ فيما شاءَ من عمل
إنا لله وإنا إليه راجعون.

MENAFN16012025000089011017ID1109096506


إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.