(
MENAFN- Alghad Newspaper)
ربى الرياحي
عمان- يعيشون بيننا بتاريخ ممتد بالعطاء والحب والدفء. هم الملجأ والسند والقوة بحنانهم وخبراتهم وحكمتهم؛ ينيرون الطرقات بقلوب لا تشيخ، حتى وإن شاخ الجسد وهرمت الملامح.
على تلك التجاعيد حُفرت قصص وحكايات يروونها تارة بالحب وتارة بالحزن والحنين. هم بركة البيوت وأعمدتها التي لا تستقيم إلا بوجودهم. سنوات طويلة قضوها في رعاية فلذات أكبادهم، يحق لهم بعد كل ذلك أن يكرموا وينظر إلى عطائهم بعين الامتنان.
في اليوم العالمي لكبار السن، الذي يصادف الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، نؤكد من جديد حقهم في بيئة صديقة تراعي احتياجاتهم في جميع المرافق والخدمات، وأهمية احتوائهم نفسيا واجتماعيا. فمهما قدمنا لهم، سنظل مقصرين أمام عطائهم الذي لا ينضب.
بين ذكريات جدته وكلماتها الحنونة، والأكلات المصنوعة بالحب، يقضي خالد (15 عاما) من حياته بجانبها، يقول "بقربها كل الأشياء جميلة ودافئة"، هي ملجأه وبيت أسراره، لها فقط يبوح لأنها الوحيدة التي تفهمه وتحتضنه حتى وإن أخطأ، تحاوره كما لو أنه كبير واع وتغفر له أخطاءه بعد أن تكون علمته دروسا لن ينساها ستطبع في عقله ووجدانه، وكل ذلك لأنه يعلم يقينا مدى حبها له وإحساسها بكل ما يجول في داخله حتى قبل أن يتكلم.
خالد يرى في جدته رمزا للصدق والقوة وحب الخير، لذلك يحرص دائما على البقاء بجانبها ومشاركتها حتى في أدق تفاصيل حياتها، فهي وحدها تمنحه إجابات عن العديد من الأسئلة التي تدور في ذهنه. منها يتعلم كيف يكون قويا وعنيدا في الحق، وكيف يواجه أي موقف يتعرض له. هي من جعلته يحب القراءة ويعتادها، ودائما ما تحرص على خلق أنشطة يومية تجمعهما، تسعدهما وتبعدهما عن الفراغ والملل.
أما الحاج أبو مجدي، فيعيش عزلة خلف جدران منزله، الذي بات فارغا من الأصوات والضحكات معظم الوقت بسبب انشغال أبنائه وأحفاده. يقول إن الوحدة الخانقة تحاصره، وتفقده سعادته التي تعود إليه فقط عندما يزوره أحد أحفاده أو أبنائه. تلك لحظات قصيرة، لكنها بالنسبة له تمثل حياة بأكملها. يوضح أن شعوره بالوحدة يزيد من مرضه، ويجعله فريسة للأوهام والهواجس، حتى أن صوت الصمت أصبح يزعجه ويقلقه كثيرا موخراً.
هو هناك، بين مخالب الفراغ، يفتش عما يخرجه من متاهة الوحدة وقسوتها التي تحكم عليه بالانزواء على رف النسيان والتقصير، من دون أي ذنب سوى أنه كبر. يبحث عن شيء يشغل به نفسه، بعيدا عن شاشات التلفاز والكتب، يحرره من قيود العزلة، ويسمح له بأن يكون حاضرا روحا وجسدا في قلب الحياة، لا على هامشها.
توضح خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم أن مفهوم الرعاية يختلف بين المجتمعات بحسب الثقافات. فالمجتمع العربي يميل إلى اعتبار أفراد العائلة مسؤولين عن رعاية بعضهم بعضا، وهذا يعتمد على مدى تماسك الروابط الأسرية، وعلاقة أفراد الأسرة ببعضهم بعضا، إضافة إلى قدرتهم الاقتصادية وحجم الضغوط المفروضة على وقتهم وطاقة أفراد العائلة.
بعض الأسر تقدم الحد الأدنى من الرعاية لكبار السن، بينما يحرص بعضها الآخر على تقديم رعاية أكثر شمولاً. ويمكن تعزيز رغبة أفراد الأسرة في رعاية كبار السن من خلال فهمهم لاحتياجاتهم الشخصية، مثل العناية بالنظافة الشخصية، وتقديم الطعام والدواء، والمساعدة في ارتداء الملابس. إلى جانب ذلك، تأتي الاحتياجات النفسية والاجتماعية، التي لا تقل أهمية، كخدمات داعمة لكبار السن من قبل عائلاتهم.
يتم ذلك من خلال عدم إهمال احتياجات كبار السن الجسدية، العاطفية، الترفيهية، الروحية، والمالية. كما يمكن طلب المساعدة في تقديم الرعاية أو الدعم النفسي من أفراد الأسرة الآخرين والأصدقاء عند الحاجة، أو حتى من المتخصصين. بالإضافة إلى البحث عن مجموعات أو مؤسسات يمكنها تقديم الدعم النفسي أو المساعدة في الرعاية، والخدمات الاستشارية والصحية، وغيرها.
أما على مستوى الالتزام الرسمي تجاه كبار السن، فإن على الحكومات المساهمة في دعمهم ورعايتهم من خلال ضمان حصولهم على ما يكفي من الغذاء والمأوى والملبس والرعاية الصحية. يجب أن يتوفر لهم مصدر دخل، بالإضافة إلى الدعم الأسري والمجتمعي، ووسائل العون والدعم الذاتي. كما ينبغي تمكين كبار السن من المشاركة في تحديد وقت انسحابهم من سوق العمل وكيفية ذلك.
ووفق إبراهيم، ينبغي أن تتاح لكبار السن إمكانية الاستفادة من برامج التعليم والتدريب الملائمة، لتمكينهم من العيش في بيئة آمنة وقابلة للتكيف بما يلائم ما يفضلونه شخصيا وقدراتهم المتغيرة حسب وضعهم الصحي والنفسي.
من أهم الأمور التي يجب ألا يغفل عنها مقدمو الرعاية للمسنين الاحتواء النفسي. تكون الحالة النفسية للإنسان في مرحلة الشيخوخة في أدنى مستوياتها، لذلك يتعين على مقدمي الرعاية في المنزل توفير الدعم النفسي اللازم لتجنب الدخول في نوبات اكتئاب أو قلق مزمن، قد يكون لها تبعات ومضاعفات غير مرغوب فيها تؤثر على الحالة الصحية للمسن.
أيضا، من الضروري الإبقاء على نشاط المسن، حيث يعد النشاط البدني المستمر عاملا مهما للحفاظ على صحة نفسية وجسدية مرتفعة. يؤثر النشاط البدني بشكل مباشر على الدورة الدموية، كما يحسن الحالة الذهنية والنفسية، مما يمنح المسن شعورا بالإنجاز يوميا.
الاستعداد للحالات الصحية الطارئة أمر مهم، ويجب أن يكون مقدم الخدمة على دراية بأساسيات الإسعافات الأولية والإنعاش القلبي. كما يجب أن تتوفر جميع الأدوات اللازمة لذلك، بما في ذلك أدوات الإسعاف الخاصة بالحروق والجروح تحسبا لأي حادث عرضي. من الضروري أيضا أن يسعى المسن -إذا كان في حالة صحية جيدة- لتلبية احتياجاته بنفسه، من دون الاعتماد على الآخرين طوال الوقت.
يقتصر دور جليسة المسنين على تقديم المساعدة عند الحاجة فقط. من ضمن أساسيات تقديم الرعاية للمسنين في المنزل، يجب تقييم الحالة الصحية العامة وقدرة المسن الحقيقية على ممارسة مختلف الأنشطة، ثم تحديد ما يمكنه القيام به بنفسه وتشجيعه على أداء مهام معينة بمفرده.
ويشير الاستشاري النفسي والأسري الدكتور أحمد سريوي إلى أن للإنسان في حياته أدوارا متعددة منذ أن كان طفلا رضيعا، ثم طالب علم، ثم شابا يعمل من أجل بناء المستقبل وتأمين الأسرة، ثم يصبح أبا، وجدا، وأخيرا كهلا تثقله أعباء الحياة. في هذه المراحل، يكتسب الإنسان خبرات عديدة من مواقف متنوعة تعرض لها، مما يمنحه نظرة شمولية عن الحياة وطبيعتها، تكفيه لفهم معنى الحياة وتقديرها. لكن، للأسف، ما إن يتقاعد هذا الإنسان ويصبح لقبه "متقاعد"، حتى يبدأ بتجسيد هذا اللقب في حياته، فيتحول إلى "متقاعد.. مت وأنت قاعد".
لكن هذا الأمر غير صحيح البتة، حيث يفترض الاستفادة من خبرات هؤلاء الأشخاص. كما نرى في العديد من الدول، فإن صناع القرار في الغالب هم من الشيوخ ذوي الخبرة الطويلة والكفاءة العالية، إذ إن الكبير بالسن يمتلك القدرة على العطاء أكثر من الشباب في بعض الحالات. لذلك، يحتاج إلى التقدير المعنوي والدعم النفسي ليشعر بقيمته بين المحيطين.
وبحسب سريوي، في الوقت الذي يشعر كبير السن بأنه عبء على من حوله، يبدأ الاكتئاب في السيطرة عليه، ويميل إلى العزلة، ويبتعد عن الناس، مما يجعله حساسا بشكل يفوق الوصف. كيف لا؟ وهو من كان يقدم ويعطي ويمنح سنوات عمره الطويلة لمن هم الآن يتثاقلون منه. لذا، يجب على من لديهم شخص كبير بالسن في حياتهم ألا يبرحوا مكانهم من دون أن ينهلوا من خبراته ويتعلموا منه ويكونوا عونا له في كل خطوة، فهؤلاء هم سبب وجودنا في الحياة.
MENAFN30092024000072011014ID1108731038