Tuesday, 17 September 2024 03:38 GMT



عومير بارتوف: عن التحولات المقلقة في المجتمع الإسرائيلي (1 - 3)

(MENAFN- Alghad Newspaper) عومير بارتوف* - (الغارديان)13/8/2024
ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏

‏بصفتي جندياً سابقاً في جيش الدفاع الإسرائيلي ومؤرخاً للإبادة الجماعية، شعرت بانزعاج عميق من زيارتي الأخيرة إلى إسرائيل.‏ هذا الصيف، احتج طلاب اليمين المتطرف على إحدى محاضراتي. وأعاد خطابهم إلى الأذهان بعضاً من أحلك اللحظات في تاريخ القرن العشرين -وتداخل مع وجهات النظر الإسرائيلية السائدة إلى درجة صادمة.‏
* * *
‏‏‏في 19 حزيران (يونيو) 2024، كان من المقرر أن ألقي محاضرة في جامعة بن غوريون في النقب في بئر السبع، ‏‏إسرائيل‏‏. وكانت محاضرتي جزءًا من حدَث عن الاحتجاجات التي يشهدها حرم الجامعات في جميع أنحاء العالم ضد إسرائيل، وكنتُ قد خططت للتحدث عن الحرب في غزة، وعلى نطاق أوسع مسألة ما إذا كانت الاحتجاجات تعبيرًا صادقًا عن الغضب أو مدفوعة بمعاداة السامية، كما ادعى البعض. لكن الأمور لم تسر كما كان مخططًا لها.‏
‏عندما وصلت إلى مدخل قاعة المحاضرات، رأيت مجموعة من الطلاب يتجمعون. وسرعان ما اتضح أنهم لم يكونوا هناك لحضور الحدث وإنما للاحتجاج عليه. ويبدو أنه تم استدعاء الطلاب من خلال رسالة عبر "واتس-آب" تم توزيعها في اليوم السابق، والتي أشارت إلى المحاضرة ودعت إلى التحرك: "لن نسمح بها! إلى متى سنرتكب الخيانة ضد أنفسنا؟!؟!...".
‏ومضت الرسالة لتزعم أنني وقعت على عريضة تصف إسرائيل بأنها "نظام فصل عنصري" (في الواقع، أشارت العريضة المعنية إلى نظام فصل عنصري في الضفة الغربية). كما أنني "اتُّهمت" بكتابة ‏‏مقال‏‏ لصحيفة "نيويورك تايمز"، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، ذكرت فيه أنه على الرغم من أن تصريحات القادة الإسرائيليين تشير إلى نية ارتكاب الإبادة الجماعية، إلا أنه ما يزال هناك متسع من الوقت لمنع إسرائيل من ارتكاب إبادة جماعية. وفي هذا الصدد، كنت مذنبًا بما اتُّهمت به. كما تعرض منظم الحدث، الجغرافي البارز أورين يفتاخيل، لانتقادات مماثلة. وشملت مخالفاته عمله مديرًا لمنظمة ‏‏"بتسيلم‏‏" "المناهضة للصهيونية"، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية لحقوق الإنسان تحظى باحترام عالمي.‏
‏عندما دخل المشاركون في اللجنة وحفنة من أعضاء هيئة التدريس، معظمهم من كبار السن، إلى القاعة، منع حراس الأمن الطلاب المحتجين من الدخول. لكنهم لم يمنعوهم من إبقاء باب قاعة المحاضرات مفتوحًا، وإطلاق شعارات بواسطة بوق مكبر للصوت والطرق على الجدران بكل قوتهم.‏
بعد أكثر من ساعة من المقاطعة والاضطراب، اتفقنا على أن أفضل خطوة للمضي قدُمًا ربما تكون مطالبة الطلاب المحتجين بالانضمام إلينا لإجراء محادثة، بشرط أن يوقفوا تعطيل الحدث. ودخل عدد لا بأس به من هؤلاء النشطاء إلى القاعة في نهاية المطاف وجلسنا وتحدثنا خلال الساعتين التاليتين. وكما اتضح، كان معظم هؤلاء الشبان والشابات قد عادوا مؤخرًا من الخدمة العسكرية الاحتياطية، التي تم نشرهم خلالها في قطاع ‏‏غزة‏‏.‏
ولم يكن هذا تبادلاً ودياً أو "إيجابيا" للآراء، لكنّه كان كاشفًا. لم يكن هؤلاء الطلاب بالضرورة ممثلين للهيئة الطلابية في إسرائيل ككل. كانوا نشطاء في منظمات يمينية متطرفة. لكن ما كانوا يقولونه يعكس من نواح كثيرة شعورًا أكثر انتشارًا في البلد.‏
‏‏لم أكن قد ذهبت إلى إسرائيل منذ حزيران (يونيو) 2023، وخلال هذه الزيارة الأخيرة وجدت بلدًا مختلفًا عن البلد الذي عرفته. وعلى الرغم من أنني عملت في الخارج لسنوات عديدة، إلا أن إسرائيل هي المكان الذي ولدت وترعرعت فيه. وهي المكان الذي عاش والداي ودفنا فيه. والمكان الذي أسس فيه ابني عائلته الخاصة، وحيث يعيش معظم أقدم وأفضل أصدقائي. ولأنني أعرف البلد من الداخل ومن خلال متابعتي للأحداث عن كثب أكثر من المعتاد منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لم أتفاجأ تمامًا بما صادفته عند عودتي، ولكنه كان ما يزال مزعجًا للغاية.‏
* * *
‏في مناقشة هذه القضايا، لا يسعني سوى أن أعتمد على خلفيتي الشخصية والمهنية. لقد خدمت في جيش الدفاع الإسرائيلي لمدة أربع سنوات، وهي فترة شملت حرب "يوم الغفران" في العام 1973، ومهماتي في الضفة الغربية وشمال سيناء وغزة، وأنهيت خدمتي كقائد سرية مشاة. وخلال الفترة التي قضيتها في غزة، رأيت فقر اللاجئين الفلسطينيين ويأسهم وهم يعيشون في أحياء مكتظة ومتهالكة. وأتذكر بوضوح شديد أنني كنت أقوم بدوريات في الشوارع الصامتة التي بلا ظلال في بلدة العريش المصرية -التي كانت قد احتلتها إسرائيل آنذاك- والتي تخترقها نظرات السكان الخائفين والمستائين الذين يراقبوننا من خلف نوافذهم المغلقة. وللمرة الأولى، فهمت ما يعنيه احتلال شعب آخر.‏
‏الخدمة العسكرية إلزامية لليهود الإسرائيليين عندما يبلغون من العمر 18 عامًا -على الرغم من وجود استثناءات قليلة- ولكن بعد ذلك، يظل من الممكن أن يتم استدعاؤك للخدمة مرة أخرى في جيش الدفاع الإسرائيلي، للتدريب أو لأداء واجبات عملياتية، أو في حالات الطوارئ مثل نشوب حرب. وعندما تم استدعائي في العام 1976، كنت طالباً جامعياً أدرس في جامعة تل أبيب. وخلال ذلك الانتشار الأول كضابط احتياطي، أصبت بجروح خطيرة في حادث تدريب، إلى جانب عدد من جنودي. وتستر جيش الدفاع الإسرائيلي على ملابسات هذا الحادث الناجم عن إهمال قائد قاعدة التدريب. وقضيت معظم ذلك الفصل الدراسي الأول في مستشفى بئر السبع، لكنني عدت إلى دراستي، وتخرجت في العام 1979 بتخصص في التاريخ.‏
جعلتني هذه التجارب الشخصية أكثر اهتمامًا بسؤال شغلني منذ فترة طويلة: ما الذي يحفز الجنود على القتال؟ في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، جادل العديد من علماء الاجتماع الأميركيين بأن الجنود يقاتلون أولاً وقبل كل شيء من أجل بعضهم بعضا، أكثر من كونهم يقاتلون من أجل هدف أيديولوجي أكبر. لكن هذا لم يتناسب تمامًا مع ما اختبرته كجندي: كنا نعتقد أننا منخرطون في هذا من أجل قضية أكبر تتجاوز مجموعتنا من رفاق القتال. وبحلول الوقت الذي أكملت فيه شهادتي الجامعية، بدأت أيضًا أسأل عما إذا كان يمكن، باسم هذه القضية، إجبار الجنود على التصرف بطرق قد يجدونها تستحق الشجب.‏
‏بالذهاب إلى الحالة القصوى، كتبت أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في أكسفورد، والتي نشرت لاحقًا ككتاب، عن التلقين النازي للجيش الألماني والجرائم التي ارتكبها الجيش على الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية. وكان ما وجدته يتعارض مع كيفية فهم الألمان في ثمانينيات القرن العشرين لماضيهم. لقد فضلوا الاعتقاد بأن الجيش خاض حربًا "لائقة"، حتى بينما ارتكب الجستابو وقوات الأمن الخاصة (إس. إس) جرائم الإبادة الجماعية "من وراء ظهره". واستغرق الأمر من الألمان سنوات عديدة أخرى لإدراك مدى تواطؤ آبائهم وأجدادهم في الهولوكوست والقتل الجماعي للعديد من الجماعات الأخرى في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي.‏
‏عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر العام 1987 كنت أدرس في جامعة تل أبيب. وقد روعتني تعليمات إسحاق رابين، وزير الدفاع آنذاك، لجيش الدفاع الإسرائيلي بأن "يكسر أذرع وأرجل" الشبان الفلسطينيين الذين كانوا يرشقون الحجارة على القوات المدججة بالسلاح. وقد كتبت له رسالة أحذره فيها، بناء على بحثي في تلقين القوات المسلحة لألمانيا النازية، من أنني أخشى أن الجيش الإسرائيلي تحت قيادته يسير في طريق زلق بالمقدار نفسه.‏
كما أظهر بحثي، حتى قبل تجنيدهم، استوعب الشباب الألمان العناصر الأساسية للأيديولوجية النازية، وخاصة الفكرة القائلة بأن الجماهير السلافية من دون البشر، بقيادة اليهود البلاشفة الغادرين، كانت تهدد ألمانيا وبقية العالم المتحضر بالدمار، وبالتالي كان لألمانيا الحق والواجب لأن تخلق لنفسها "مساحة معيشة" في الشرق، وأن تُهلك أو تستعبد سكان تلك المنطقة. ثم تم غرس هذه النظرة للعالم في الجنود، بحيث أنه بحلول الوقت الذي ساروا فيه إلى الاتحاد السوفياتي، كانوا ينظرون إلى أعدائهم من خلال هذه العدسة. وقد أكدت المقاومة الشرسة التي أبداها الجيش الأحمر فقط الحاجة إلى تدمير الجنود والمدنيين السوفيات تمامًا على حد سواء، وخاصة اليهود، الذين كان ينظر إليهم على أنهم المحرضون الرئيسيون على البلشفية. وكلما زاد الدمار الذي أحدثته، أصبحت القوات الألمانية أكثر خوفًا من الانتقام الذي يمكن أن تتوقعه إذا انتصر أعداؤها. وكانت النتيجة مقتل ما يصل إلى 30 مليون جندي ومواطن سوفياتي.‏
‏لدهشتي، بعد أيام قليلة من الكتابة إليه، تلقيت رداً من سطر واحد من رابين، يوبخني فيه لتجرؤي على مقارنة الجيش الإسرائيلي بالجيش الألماني. وقد منحني ذلك الفرصة لأكتب له رسالة أكثر تفصيلاً، أشرح فيها بحثي وقلقي من استخدام الجيش الإسرائيلي كأداة لقمع المدنيين العزل الخاضعين للاحتلال. ورد رابين مرة أخرى، بالعبارة نفسها: "كيف تجرؤ على مقارنة الجيش الإسرائيلي بالفيرماخت"؟! ولكن في وقت لاحق، أعتقد أن هذا التبادل كشف شيئًا عن رحلته الفكرية اللاحقة. لأنه، كما نعلم من مشاركته اللاحقة في ‏‏عملية أوسلو للسلام‏‏، مهما كانت معيبة، أدرك في النهاية أنه على المدى الطويل لا يمكن لإسرائيل أن تتحمل الثمن العسكري والسياسي والأخلاقي للاحتلال.‏
منذ العام 1989، أقوم بالتدريس في الولايات المتحدة. وقد كتبت بغزارة عن الحرب، والإبادة الجماعية، والنازية، ومعاداة السامية والهولوكوست، سعيًا إلى فهم الروابط بين القتل الصناعي للجنود في الحرب العالمية الأولى وإبادة نظام هتلر للسكان المدنيين. ومن بين مشاريع أخرى، قضيت سنوات عديدة في البحث عن تحول مسقط رأس والدتي -بوخاخ في بولندا (أوكرانيا الآن)- من مجتمع متسم بالتعايش بين الأعراق إلى مجتمع ينقلب فيه السكان غير اليهود في ظل الاحتلال النازي ضد جيرانهم اليهود. وبينما جاء الألمان إلى المدينة بهدف صريح هو قتل يهودها، تم تسهيل سرعة وكفاءة القتل إلى حد كبير من خلال التعاون المحلي. وكان الدافع وراء سلوك هؤلاء السكان المحليين هو الاستياء والكراهية الموجودة مسبقًا والتي يمكن إرجاعها إلى صعود القومية العرقية في العقود السابقة، والرأي السائد بأن اليهود لا ينتمون إلى الدول القومية الجديدة التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الأولى.‏
‏وفي الأشهر التي تلت 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح ما تعلمته على مدار حياتي وحياتي المهنية أكثر إيلامًا من أي وقت مضى. مثل كثيرين آخرين، وجدت أن هذه الأشهر الأخيرة كانت صعبة عاطفياً وفكرياً. ومثل كثيرين آخرين، تأثر أفراد أسرتي وعائلات أصدقائي بشكل مباشر بالعنف. ولم تكن ثمة ندرة في الحزن أينما اتجهت.‏
* * *
جاء هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ليشكل صدمة هائلة للمجتمع الإسرائيلي؛ صدمة لم يبدأ في التعافي منها بعد. كانت هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها إسرائيل السيطرة على جزء من أراضيها لفترة مطولة نسبياً من الزمن، حيث لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من منع حدوث مذبحة راح ضحيتها أكثر من 1.200 شخص -قتل العديد منهم بأقسى الطرق التي يمكن تخيلها- وأُخذ أكثر من 200 رهينة، بمن فيهم عشرات الأطفال. إن الشعور بتخلي الدولة عن الناس واستمرار انعدام الأمن -حيث ما يزال عشرات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين مشردين من منازلهم على طول قطاع غزة وعلى الحدود اللبنانية- عميق.‏
‏اليوم، عبر قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، بمن في ذلك أولئك الذين يعارضون الحكومة، ثمة شعوران سائدان أكثر ما يكون.‏
‏الأول هو مزيج من الغضب والخوف، ورغبة في إعادة إرساء الأمن بأي ثمن، وانعدام الثقة التام في الحلول السياسية والمفاوضات والمصالحة. كان المنظِّر العسكري، كارل فون كلاوزفيتز، قد أشار إلى أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، وحذر من أنها ستؤدي، من دون وجود هدف سياسي محدد، إلى دمار لا حدود له. وعلى نحو مماثل، يهدد الشعور السائد الآن في إسرائيل بجعل الحرب غاية في حد ذاتها. ومن وجهة النظر هذه، تشكل السياسة عقبة أمام تحقيق الأهداف وليس وسيلة للحد من الدمار. ولا يمكن أن تؤدي هذه النظرة إلا إلى القضاء على الذات في نهاية المطاف.
‏الشعور الثاني السائد -أو بالأحرى الافتقار إلى الشعور- هو الجانب الآخر للأول. إنه العجز التام للمجتمع الإسرائيلي اليوم عن الشعور بأي تعاطف مع سكان غزة. بل يبدو أن الأغلبية لا تريد حتى معرفة ما يحدث في غزة، وتنعكس هذه الرغبة في التغطية التلفزيونية. عادة ما تبدأ أخبار التلفزيون الإسرائيلي هذه الأيام بتقارير عن جنازات الجنود، الذين يوصفون دائمًا بأنهم أبطال، سقطوا في القتال في غزة، تليها تقديرات لعدد مقاتلي "حماس" الذين تمت "تصفيتهم". والإشارات إلى وفيات المدنيين الفلسطينيين نادرة، وعادة ما يتم تقديمها على أنها جزء من دعاية العدو أو كسبب للضغوط الدولية غير المرحب بها. وفي مواجهة الكثير من الموت، يبدو هذا الصمت الذي يصم الآذان الآن وكأنه يمثل شكله الخاص من الانتقام.‏
‏بطبيعة الحال، أصبح الجمهور الإسرائيلي منذ فترة طويلة معتادًا على الاحتلال الوحشي الذي ميز البلد لمدة 57 عامًا من أصل 76 عامًا من وجوده. لكن حجم ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي في غزة الآن لم يسبق له مثيل من حيث اللامبالاة الكاملة لمعظم الإسرائيليين بما يتم القيام به باسمهم. في العام 1982، احتج مئات الآلاف من الإسرائيليين على المذبحة التي نُفذت ضد السكان الفلسطينيين في مخيمي ‏‏اللاجئين صبرا وشاتيلا‏‏ في غرب بيروت على يد الميليشيات المسيحية المارونية، بتسهيل من جيش الدفاع الإسرائيلي. واليوم، لا يمكن تصور هذا النوع من رد الفعل. إن الطريقة التي تلمع بها عيون الناس كلما ذكر المرء معاناة المدنيين الفلسطينيين، وموت الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، هي أمر مقلق للغاية.‏
‏عند لقائي بأصدقائي في إسرائيل هذه المرة، شعرت المرة تلو المرة بأنهم كانوا خائفين من أن أقاطع حزنهم، وأنني بسبب عيشي خارج البلاد لم أستطع فهم آلامهم وقلقهم وحيرتهم وعجزهم. وأي تلميح إلى أن العيش في البلد خدَّرهم عن الإحساس بآلام الآخرين؛ الآلام التي يتم إلحاقها باسمهم، لم ينتِج سوى جدار من الصمت، أو انسحابهم إلى دواخل أنفسهم، أو تغيير سريع للموضوع. كان الانطباع الذي حصلت عليه ثابتًا: ليس لدينا مكان في قلوبنا، وليس لدينا مكان في أفكارنا، لا نريد أن نتحدث أو أن نُبرز ما يفعله جنودنا أو أبناؤنا أو أحفادنا، إخواننا وأخواتنا، الآن في غزة. يجب أن نركز على أنفسنا، على صدمتنا وخوفنا وغضبنا.‏
‏في مقابلة أجريت معه في 7 آذار (مارس) 2024، عبر الكاتب والمزارع والعالم، زئيف سميلانسكي، عن هذا الشعور بالذات بطريقة وجدتها صادمة، على وجه التحديد لأنها جاءت منه. لقد عرفت سميلانسكي منذ أكثر من نصف قرن، وهو ابن الكاتب الإسرائيلي الشهير س. يزهار، الذي كانت ‏‏روايته "خربة خيزة" عن أحداث العام 1949‏‏ أول نص في الأدب الإسرائيلي يواجه الظلم الذي شكلته النكبة، وطرد 750 ألف فلسطيني مما أصبح دولة إسرائيل في العام 1948. وفي حديثه عن ابنه، عوفر، الذي يعيش في بروكسل، علق سميلانسكي:‏
‏"يقول عوفر إن كل طفل بالنسبة له هو طفل، بغض النظر عما إذا كان في غزة أو هنا. أنا لا أشعر مثله. أطفالنا هنا أكثر أهمية بالنسبة لي. هناك كارثة إنسانية مروعة تحدث هناك، وأنا أفهم ذلك، لكن قلبي مسدود ومليء بأطفالنا ورهائننا... لا يوجد مكان في قلبي للأطفال في غزة، مهما كان الأمر صادمًا ومرعبًا، وحتى على الرغم من أنني أعرف أن الحرب ليست هي الحل".‏
‏"أستمع إلى معوز إينون، الذي فقد والديه (قتلتهما 'حماس' في 7 تشرين الأول (أكتوبر))... الذي يتحدث بشكل جميل ومقنع عن الحاجة إلى التطلع إلى الأمام، وأننا في حاجة إلى جلب الأمل والرغبة في السلام، لأن الحروب لن تحقق أي شيء، وأنا أتفق معه. أتفق معه، لكنني لا أستطيع أن أجد القوة في قلبي، مع كل ميولي اليسارية وحبي للإنسانية، لا أستطيع... إنه ليس 'حماس' وحدها، بل كل سكان غزة هم الذين يوافقون على أنه لا بأس في قتل الأطفال اليهود، وأن هذه قضية جديرة... مع ألمانيا كانت هناك مصالحة، لكنهم اعتذروا ودفعوا تعويضات، وماذا (سيحدث) هنا؟ نحن أيضًا فعلنا أشياء فظيعة، ولكن لا شيء يقترب مما حدث هنا في 7 تشرين الأول (أكتوبر). سيكون من الضروري المصالحة، ولكننا في حاجة إلى بعض المسافة".‏
كان هذا شعورًا سائدًا بين العديد من الأصدقاء والمعارف من ذوي الميول اليسارية والليبرالية الذين تحدثت معهم في إسرائيل. كان، بالطبع، مختلفًا تمامًا عما يقوله السياسيون اليمينيون والشخصيات الإعلامية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). العديد من أصدقائي يعترفون بظلم الاحتلال، وكما قال سميلانسكي، يعلنون "حبهم للإنسانية". ولكن في هذه اللحظة، في ظل هذه الظروف، ليس هذا ما يركزون عليه. بدلاً من ذلك، يشعرون أنه في الصراع بين العدالة والوجود، يجب أن ينتصر الوجود، وفي الصراع بين قضية عادلة وأخرى -قضية الإسرائيليين وقضية الفلسطينيين- فإن قضيتنا هي التي يجب أن تنتصر، بغض النظر عن الثمن. وبالنسبة لأولئك الذين يشككون في هذا الاختيار الصارخ، يتم تقديم "المحرقة" كبديل، مهما كانت غير ذات صلة باللحظة الحالية.‏
‏ولم يظهر هذا الشعور فجأة في 7 تشرين الأول (أكتوبر). إن جذوره أعمق بكثير.‏ (يُتبع)
* * *
‏*عومير بارتوف Omer Bartov:‏‏ (من مواليد إسرائيل في العام 1954) مؤرخ إسرائيلي أميركي. وهو أستاذ ‏‏صموئيل بيسار‏‏ لدراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في ‏‏جامعة براون‏‏، حيث يدرّس منذ العام 2000. ‏وهو مؤرخ ‏‏للهولوكوست‏‏ ويعد إحدى السلطات الرائدة في العالم في ‏‏مجال الإبادة الجماعية‏‏. ‏‏تصفه مجلة "ذا فوروارد ‏‏بأنه "أحد أبرز علماء الحياة اليهودية في ‏‏غاليسيا‏‏". خدم في الجيش الإسرائيلي خلال حرب البلاد في العام 1973، ضد العديد من جيرانها. خلال حياته المهنية التي استمرت أربعة عقود، كتب العديد من الكتب والمقالات التي تدرس نظام هتلر، مع التركيز بشكل خاص على كيفية عمل الأيديولوجية النازية في مؤسسات مثل الجيش الألماني.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: As a former IDF soldier and historian of genocide, I was deeply disturbed by my recent visit to Israel

MENAFN16092024000072011014ID1108679600


إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

النشرة الإخبارية



آخر الأخبار