درسٌ من كوريا الجنوبية، مضيفة الألعاب الأولمبية، للعالم العربي: النمو الاقتصادي غير مرتبط بجدول الترتيب | سنديكيشن بيورو


(MENAFN- Syndication Bureau)

تخيل أنك أحد سكان كوريا الجنوبية في أوائل الستينات: بلادك فقيرة، واقتصادها منهار، وقد قام قائد عسكري لا يملك أي خبرة في الحكم ببسط سيطرته على البلاد عن طريق انقلاب ضد النظام الحاكم. دخلك الفردي أقل من الدخل الفردي في اليمن أو هايتي أو إثيوبيا، والناتج المحلي الإجمالي للفرد في بلادك يقل عن نظيره في باكستان ومصر ولا يتجاوز نصف الناتج المحلي الإجمالي للفرد في المغرب. أنت مجرد كائن هامشي بالنسبة للاقتصاد العالمي، ودولتك لا تعدو كونها دولة آسيوية فقيرة من “العالم الثالث”.

الآن، تخيل أن شخصاً يخبرك أنه في العام 2018، ستقوم دولتك باستضافة الألعاب الأولمبية الشتوية، وهي تحتل المرتبة 11 بين الدول ذات الاقتصادات الأضخم في العالم، بناتج محلي إجمالي يتجاوز 1.5 تريليون دولار. دولتك أيضاً هي خامس أكبر مُصدِّر في العالم، وعلاماتها التجارية، من سامسونغ إلى هيونداي، معروفة في جميع أنحاء العالم، كما أنها ستصبح أكبر دولة مصنعة للسفن في العالم، ومنتج سيارات عالمي، ومركزاً للتكنولوجيا المتطورة.

هل ما زلت تذكر باكستان ومصر والمغرب، تلك الدول التي كانت تسبقك بأشواط في الناتج المحلي الإجمالي للفرد؟ اليوم يصل الناتج المحلي الإجمالي في بلادك إلى ما يقارب تسعة أضعاف نظيره في مصر، وحوالي عشرة أضعاف نظيره في المغرب، وتقريباً 19 ضعفاً للناتج المحلي الإجمالي للفرد في باكستان. أنت معذور إذا ظننت أن من يعطيك تنبؤاً مماثلاً قد مسه الجنون.

قد يكون هذا هو السبب الذي يجعل الخبراء الاقتصاديين والمتخصصين في التنمية يعتبرون نمو كوريا الجنوبية “معجزة اقتصادية”. لكن وصف هذا النمو بالمعجزة لا يأخذ بعين الاعتبار عدداً لا يحصى من الاختيارات السياساتية التي قامت بها الحكومات المتوالية في هذا البلد، والقدر المذهل من المثابرة والتفاني والعمل الدؤوب من جانب الشعب الكوري من أجل بناء مستقبلهم. فنمو كوريا الجنوبية جاء نتيجة سياسات ذكية وعمل جاد ورؤية استراتيجية، أما تفاصيل هذا النمو فهي تقدم دروساً للعديد من تلك الدول العربية التي تجاوزتها كوريا الجنوبية في طريقها نحو ما سماه الخبير الاقتصادي في الأسواق الناشئة، روشير شارما، الاقتصاد الذي يستحق “الميدالية الذهبية”.

من أجل فهم حجم النمو الذي حققته كوريا الجنوبية، يكفي الاطلاع على الدول 22 التي تشكل الجامعة العربية، والتي تضم أكثر من 400 مليون شخص. الخلاصة هي أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول الجامعة العربية يصل إلى ما يناهز 2.8 تريليون دولار، وهو يساوي تقريباً نظيره في فرنسا، لكنه أقل من اليابان وألمانيا.

بالمقابل، فإن اقتصاد كوريا الجنوبية، التي تحتضن ساكنة بالكاد يتجاوز تعدادها 50 مليون شخص، هو أكبر من نصف اقتصادات الدول العربية مجتمعة. وعلى سبيل المثال، فإن القيمة السوقية لشركة سامسونغ وحدها أكبر من مجموع اقتصادات 19 دولة عربية، فقط المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر تتجاوز قيمتها السوقية قيمة “دُوَيلة سامسونغ”.

هذا الأمر يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: هل يمكن تطبيق الدروس المستخلصة من نمو كوريا الجنوبية في العالم العربي اليوم؟ فبينما يصعب تتبع تفاصيل نمو كل دولة على حدة، يوجد درس واضح واحد تقدمه تجربة كوريا الجنوبية يمكن للدول العربية وغيرها من الدول النامية الاستفادة منه، وهو درس لن ينال استحسان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من وكالات التنمية: إذا تم تطبيق الرأسمالية الموجهة من قبل الدولة بالشكل الصحيح، قد تكون أداة قوية لتحقيق تقدم سريع في مسار التنمية.

وقد كان مهندس النهضة المبكرة لكوريا الجنوبية هو الجنرال بارك تشونغ هي الذي استولى على الحكم بعد انقلاب عسكري سنة 1961. آمن الجنرال بأنه يجب على الدولة حماية الصناعات الاستراتيجية الوليدة وتحفيز القطاع الخاص عن طريق القروض ذات الفائدة الضئيلة وتقديم الدعم والاعفاءات الضريبية من أجل تطوير الصناعات المتنوعة بدءاً من الصلب ومروراً بصناعة السيارات ووصولاً إلى المواد الكيميائية. وقد أضاف بارك تشونغ هي مكوناً مهماً لهذه الخلطة: إن رواد الأعمال والشركات العائلية التي تستجيب لدعوة الدولة وتستفيد من دعمها ملزَمة بالمنافسة الشرسة في الأسواق العالمية ومع بعضها البعض، وإلا فقدت قروضها وحوافزها، أما الشركات المملوكة للدولة التي تقف “محلّك سر” فلا مكان لها في هذا الاقتصاد.

وقد كان ارتفاع حجم الصادرات أهم علامات النجاح بالنسبة لبارك ومجلس التخطيط الاقتصادي لكوريا الجنوبية، حيث يصف الباحث والصحفي جو ستادويل كيف دفع “نظام التصدير” الذي فرضه بارك الشركات الكورية إلى الابتكار بدل الركود، وساعد على ظهور بعض من أهم الأسماء التي نعرفها اليوم، مثل هيونداي وكيا وسامسونغ. فالشركات التي فشلت في مواكبة التقدم فقدت الدعم الحكومي وانتهت قبل أن تبدأ. فالحكومة الكورية لم تكن تختار الفائزين، بل كانت السوق هي التي تتولى هذه المهمة، بينما اقتصر عمل الحكومة على اختيار الصناعات الاستراتيجية التي ستقوم بدعمها.

وغالباً ما تتحدث وكالات التنمية مثل البنك الدولي وغيره عن خلق بيئة تمكينية للأعمال؛ فهي تتحدث عن منظومات وتقوم بتصنيف الدول حسب مؤشرات “ممارسة الأعمال”، وتتنافس الدول العربية على تحقيق المراتب العليا في هذه التصنيفات. لكن بارك كان ليهزأ بهذه الفكرة، مثلما هزأ به البنك الدولي بسبب أفكاره المتعلقة بإنشاء صناعات الصلب والبيتروكيماويات، ونصحه بالالتزام بصناعات الملابس والمنسوجات، كما ذكر جو ستادويل في كتابه “أسرار الازدهار والفشل الآسيوي”.

إن تكاتف جهود القوة العاملة المتعلمة والمُجدة في كوريا الجنوبية، والدولة التي خلقت نظاماً صناعياً مستعداً لاحتضان النجاح المحتمل، ورواد الأعمال والشركات التي نافست بشراسة في الأسواق العالمية هو الذي خلق “المعجزة” الاقتصادية في كوريا الجنوبية. ويمكن للعديد من الدول العربية الاستفادة من هذه الدروس؛ فعوض ملاحقة التصنيفات في قائمة “ممارسة الأعمال” الخاصة بالبنك الدولي أو “مؤشر التنافسية” الخاص بالمنتدى الاقتصادي العالمي، يجب على الزعيم العربي ذي النظرة الثاقبة أن يستطلع الساحة الصناعية اليوم والصناعات التي ستنمو في المستقبل، واتباع قاعدة من قواعد بارك: دعم نمو المُصدرين المحليين من القطاع الخاص مع فرض “الانضباط في التصدير” على الفائزين والخاسرين.

إن الأرقام لا تكذب، وهي تُظهر فشل العالم العربي عموماً في تحقيق إمكانياته الهائلة. فباستثناء قلة قليلة من قصص النجاح – خاصة دولة الإمارات كمثال على بلد حقق نجاحاً اقتصادياً فاق التوقعات – لا توجد أي دولة عربية مؤهلة للوقوف على منصة ميداليات الاقتصاد العالمي.

ولن يحتاج تحقيق هذا النمو إلى معجزة، بل سيتطلب تجاهُل ما تقدمه جيوش من الاستشاريين ومستشاري التنمية من توجيهات للدول العربية، والمشي على خطى المبادئ العامة التي اتبعها نموذج ناجح مثل النموذج الكوري الجنوبي.

AFP PHOTO / KIM JAE-HWAN

MENAFN29082021006092013261ID1102700235


Syndication Bureau

Legal Disclaimer:
MENAFN provides the information “as is” without warranty of any kind. We do not accept any responsibility or liability for the accuracy, content, images, videos, licenses, completeness, legality, or reliability of the information contained in this article. If you have any complaints or copyright issues related to this article, kindly contact the provider above.