"الإخوان" يتحكمون بدفة البرهان

(MENAFN- Al-Bayan) في تصريحاته الأخيرة، بدا عبدالفتاح البرهان أكثر صراحةً من أي وقتٍ مضى في تأكيده أن خيار الحرب ما زال هو البوصلة الوحيدة التي يهتدي بها، وأن أي حديث عن السلام في هذه المرحلة وهمٌ لا مكان له في حسابات استعادة الدولة، كما يدّعي.

قال الرجل بلهجةٍ قاطعةٍ إن المعركة يجب أن تُحسم عسكرياً، وإن الذين تآمروا على الوطن، حسب تعبيره، لا يمكن أن يُعاد دمجهم أو التحاور معهم، بل ينبغي اقتلاعهم من جذورهم. كلمات حادة، مباشرة، لا تترك خلفها سوى غبار المعارك التي وعد بمواصلتها، ولا تمنح أملاً لمن ينتظرون نهاية الكابوس الذي طال ثلاث سنوات.

هذه التصريحات لم تكن مجرد موقفٍ سياسي، بل تعد إعلاناً صريحاً بأن الرجل حسم أمره، وأن كل ما قيل أو أُوحي به سابقاً عن بوادر انفتاحٍ أو رغبةٍ في حلٍّ سلميٍّ لم يكن سوى سحابة صيفٍ مرّت سريعاً. وبهذه اللهجة، أغلق البرهان الباب الذي ظن البعض أنه بدأ يُفتح، مؤكداً أنه ماضٍ في الطريق ذاته، الطريق الذي يزداد ظلاماً كلما تقدمت فيه خطوات الحرب.

في لحظةٍ بدت وكأنها تفتح نافذة أمل على سماءٍ أثقلتها سنوات من الدخان والدم والدمار، خرج البرهان قبل فترةٍ بتغريدةٍ مقتضبة، شكر فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

لم تكن الكلمات طويلة، ولم تحمل وعوداً صريحة، لكنها أوحت بأن الرجل، الذي أمضى شهوراً يردد أن الحرب خيار لا بديل عنه، ربما بدأ ينصت أخيراً إلى النداءات التي تتعالى داخل السودان وخارجه لوقف هذا النزيف العبثي. بدا وكأنه يلوّح، ولو على استحياء، بأن باب الحل السلمي قد يفتح، وأن صدى الضغوط الدولية والإقليمية وصل إليه.

لكن الحقيقة التي تكشفت سريعاً كانت صادمة، إذ تبين أن تلك الإشارة العابرة لم تكن سوى موجةٍ صغيرةٍ في بحر تهيجه جماعة ترى في السلام هزيمة لها، لأنها لا تعيش إلا في ظل الانقسام. فالتغريدة التي أثارت شيئاً من التفاؤل لدى من يريدون للسودان أن يخرج من دوامة الجنون، تحولت في نظر خصوم البرهان قبل حلفائه إلى ((زلة سياسية)) لا ينبغي أن تتكرر.

فحتى الذين يختلفون معه قرأوا فيها شيئاً من التعب، أو ربما اعترافاً خجولاً بأن الحرب طالت أكثر مما يحتمل السودان، لكن السياسة لا تقرأ بالنوايا. السياسة تقرأ في الغرف المغلقة، حيث تطبخ القرارات على مقاس الذين يمسكون بخيوط اللعبة.

وفي تلك الغرف، يجلس اللاعبون الذين لا يريدون للحرب أن تنتهي، لأنها مصدر نفوذٍ لهم، ولأن أي حل سلمي يعني نهاية امتيازات راكموها طوال سنوات من التغلغل في مفاصل الدولة. ولأن البرهان، مهما حاول أن يبدو مستقلاً في قراره، لا يتحرك بعيداً عن ظل التيار الذي يسيطر على المؤسسة العسكرية، فقد جاء التراجع سريعاً.

لم يلبث الرجل أن عاد إلى خطاب الحسم العسكري، وكأن تغريدته كانت فاصلاً قصيراً بين جملتين من اللغة ذاتها. عاد ليؤكد أن السلاح وحده هو الطريق، وأن الخونة والمتآمرين، وهو الوصف الذي يطلقه يطلق على خصومه السياسيين، لا يمكن التعامل معهم إلا بالنار. كأن البلاد لم تتشظ بما يكفي.

وكأن ملايين النازحين لم يفقدوا بيوتهم، وأمنهم، وأحلامهم. وكأن المدن التي تحولت إلى ركام، والقرى التي ابتلعتها النيران، ليست سبباً كافياً ليقف صاحب القرار أمام مرآة الحقيقة التي يهرب منها كل يوم.

يعرف السودانيون قبل غيرهم أن البرهان ليس سيد قراره. فالمجموعة التي تمسك بمفاصل الجيش، من ضباط محسوبين على جماعة((الإخوان)) إلى شخصيات مدنية تنتفع من استمرار الحرب، تضغط في اتجاهٍ واحد، ألا يرفع السلاح عن الكتف قبل استعادة السيطرة الكاملة.

وهي مجموعة تدرك أن أي مفاوضات حقيقية ستقصيها من المشهد، وربما تحاسبها على سنواتٍ من الفساد.

لذا لم يكن مفاجئاً أن تأتي ردة الفعل على تغريدة البرهان سريعة وحادة، حتى من داخل الدائرة الأقرب إليه. قيل له إن السلام في هذا التوقيت خيانة، وإن الحرب وحدها طريق النصر، وكأنهم يتحدثون عن مباراة كرة قدم، لا عن وطنٍ يتآكل من أطرافه.

وإذا كان البرهان قد حاول لوهلة اختبار نبرةٍ مختلفة، فإن تلك المحاولة لم تصمد.

عاد الرجل إلى خندقه القديم، حيث تبنى الخطابات على مفردات القوة لا المصالحة، وحيث يرى نفسه قائداً لمعركة استعادة الوطن، كما يصور له غروره، بينما الوطن يبتعد عنه أكثر فأكثر.

عاد إلى خطابٍ لا يترك مساحة لغير الحرب، رغم أن الجميع، حتى أقرب الحلفاء، يعرفون أنها حرب لا تحسم بمعادلة صفرية.

فالسودان لا يدار بمنطق الغالب والمغلوب، بل بمنطق الشراكة التي يرفضها من يحركون المشهد اليوم.

إن القراءة الهادئة لما جرى تقول إن التغريدة لم تكن تحولاً، بل لحظة اضطراب مؤقتة واجه فيها البرهان ضغطاً دولياً واضحاً.

وربما شعر للحظة بأن استمرار الحرب سيصبح عبئاً عليه وعلى حلفائه. ولكن سرعان ما أعادته المنظومة التي ينتمي إليها إلى المسار الذي تفضله، لأن السلام بالنسبة لهم ليس خياراً، بل تهديداً مباشراً لوجودهم.

لقد أضاع البرهان فرصة كان يمكن أن تُسجل له، فرصةً كان السودان في أمسّ الحاجة إليها. واختار، مرة أخرى، طريق الحرب الذي يفضله الكيزان، الذين لم يترددوا في إفساد تغريدته قبل أن يجف حبرها.

MENAFN02122025000110011019ID1110428163

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث