هل نحتاج تفرغاً ثقافياً؟

(MENAFN- Al-Bayan) الكتابة فعل يحتاج إلى فسحة من الوقت، وإلى ذهن غير مثقل بالمهام اليومية، وإلى بيئة تسمح للفكرة أن تتبلور دون استعجال، وهي ليست عملية لحظية، بل مشروع ممتد يتطلب زمناً متواصلاً وتراكماً ذهنياً وقدرة على التركيز بعيداً عن إيقاع العمل السريع، ومع تسارع بناء اقتصاد المعرفة في الإمارات، يزداد السؤال إلحاحاً: كيف يمكن للكاتب الإماراتي أن ينجز مشروعاً إبداعياً طويلاً في ظل جدول يومي مزدحم والتزامات لا تهدأ؟

في هذا السياق، جاءت مبادرة ((التفرغ الإبداعي)) التي أطلقتها وزارة الثقافة، والتي تمنح المبدعين فرصة للمشاركة في فعاليات فنية أو ثقافية ضمن وقت محمي، وهي خطوة إيجابية تعكس إدراكاً مؤسسياً لأهمية الزمن في عملية الإبداع، غير أن طبيعة هذه الخدمة.

بما تشترطه من دعوة رسمية لفعالية محددة، تجعلها أقرب إلى دعم ((مشاركة)) منها إلى برنامج يُعنى بمشاريع الكتابة طويلة الأمد، خاصة أن مدة التفرغ المتاحة، وهي تسعون يوماً، لا تكفي عادة لإنجاز مشروع تأليفي متكامل يحتاج إلى قراءة معمقة وتفكير متأنٍ وعمليات متكررة من التحرير وإعادة الصياغة..!

ومن هنا نطرح سؤالاً آخر في ظل هذا المشهد الثقافي سريع التطور: هل بات الوقت مناسباً لإطلاق مسار وطني للتفرغ الثقافي موجه خصيصاً للأدب والبحث، ويستجيب لاحتياجات الكاتب الذي يعمل ضمن منظومة يومية مزدحمة لا تترك له مساحة زمنية ثابتة لبناء مشروعه؟

النظر إلى التجارب العالمية، خصوصاً في الدول الإسكندنافية، يقدم إجابة واضحة، فالنرويج تمنح الكتاب والفنانين ما يعرف بـ((منح العمل الفني))، وهي برامج تفرغ تمتد من عام واحد إلى خمسة أعوام، تمكن المبدع من تخصيص كامل وقته لمشروعه دون انقطاع.

وقدم صندوق دعم الفنانين هناك خلال السنوات الماضية مئات الملايين من الكرونات، الأمر الذي انعكس على ازدهار المشهد الثقافي وارتفاع مستوى الأعمال المنشورة ونمو قطاع الصناعات الإبداعية بصورة لافتة، أما السويد فتمضي في الاتجاه ذاته عبر ((اللجنة السويدية لمنح الفنون))، التي تمنح المبدعين تفرغاً سنوياً بقيمة تقارب مئة وسبعين ألف كرونة سويدية.

إضافة إلى منح طويلة الأمد تمتد إلى خمس أو عشر سنوات، وهي من أرفع صيغ الدعم الثقافي في أوروبا، وتهدف أساساً إلى تمكين الكاتب من متابعة مشروعه دون انقطاع، سواء كان رواية طويلة أو كتاباً فكرياً أو دراسة بحثية تحتاج إلى قراءة معمقة وبناء تدريجي طويل..!

هذه النماذج تؤكد حقيقة أساسية مفادها أن الوقت هو رأس مال الكاتب، ومن دونه لا يمكن بناء نص رصين أو كتابة بحث عميق أو إنشاء مشروع أدبي يحمل قيمة وجدوى، فالإبداع يحتاج إلى زمن، والزمن يحتاج إلى منظومة تحميه وتمنحه الاستمرارية والهدوء والاتساق..

وجود إطار زمني محمي للكتاب سيُسهم في زيادة عمق الأعمال الأدبية والبحثية سنوياً، ويُعزز حضور الأدب الإماراتي في المعارض الدولية، كما سيخلق بيئة تنافسية تدفع نحو جودة أعلى، ويمنح صُناع النصوص القدرة على تحويل أفكارهم إلى مشاريع مكتملة بدل أن تبقى في حدود الملاحظات والهوامش.

إضافة إلى أن وجود برنامج وطني منظم سيعيد تعريف الكتابة بوصفها جزءاً من البنية التحتية للاقتصاد الإبداعي، لا نشاطاً فردياً يعتمد على الجهد الشخصي والاجتهاد الذاتي فقط.

ولأن الإمارات تمضي بثقة نحو اقتصاد معرفي متكامل، فإن تطوير برنامج للتفرغ الثقافي ـ يكون موازياً لمبادرة التفرغ الإبداعي الحالية ـ بسياسة واضحة وميزانية مدروسة، سيشكل خطوة طبيعية في هذا المسار، برنامج يمنح الكاتب فترة عمل منتظمة لإنجاز مشروعه، ويعزز قدرة المبدعين على إنتاج أعمال تضيف إلى السردية الوطنية وتعكس حضور الإمارات في المشهد الثقافي العربي.

فالكتابة عمل معرفي قائم على التأمل والبحث والتراكم، وليست نشاطاً ثانوياً، بل ركيزة في بناء الوعي الجمعي وتطوير الذائقة الثقافية، وتوفير وقت طويل ومنتظم للكتابة سيمنح المشهد الثقافي الإماراتي زخماً جديداً، ويتيح لمشاريع أدبية ورؤى فكرية أن ترى النور، وأن تتقدم بثقة داخل بيئة تحتفي بالإبداع وتحتضنه.

MENAFN19112025000110011019ID1110370456

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.