أمانة الوطن بين الحاكم والتاجر
تحت عنوان ((الحاكم لا يكون تاجراً))، جاء الدرس الحادي والعشرون من دروس هذا الكتاب الرصين، وفي هذا الدرس ينتقد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد واحداً من أخطر أسباب فساد الدولة، وهو انصراف الحاكم بكامل رغبته وقوته عن مهمته الأساسية، وهي الحكم وإدارة شؤون الدولة وتوفير جميع مظاهر الأمان لشعبه، ليدير ظهره لكل هذا الشرف، وينزل إلى ساحة السوق التي تغص بالتجار من جميع الأنواع، فيضع كل تركيزه في جمع الأموال وتخزين الأرصدة، وما يزال الوضع يتفاقم حتى تؤول الأمور إلى خراب الدولة وانهيار نظام الحكم على رأس هذا الحاكم القصير النظر القليل التدبير لنفسه وشعبه ووطنه.
((علمتني الحياة أن الحاكم لا يكون تاجراً))، بهذه اللغة الواضحة يفتتح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذا الدرس من دروس الحياة، مؤكداً موقفه بحرف التوكيد ((أنّ)) على استحالة الجمع بين الحكم والتجارة، وأن الحاكم الذي يستحق شرف هذا المقام الرفيع لا يمكن أن ينزلق إلى سوق التجارة ويترك شرف السيادة، فإن نفسية الحاكم الشريفة تحول بينه وبين ذلك، لما يترتب عليه من الفساد العام والخاص، وهو ما وضحه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في قوله: ((وكما يقولون: إذا دخلت التجارة على الحكم فسد الحكم، وفسدت التجارة))، وهذه حقيقة مقطوع بها لا يشك فيها عاقل، وتشهد لها التجربة، ولا ينزلق إليها إلا من لم يعرف قدر الشرف والسيادة، وأن ذلك لا يكون بحيازة الأموال، بل بصناعة الرجال وحماية الأوطان، والطلوع في سماء المجد كالشمس في رابعة النهار، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في بيت شعري جميل من شعره العذب يقول فيه:
ونحن مب تجار نبغي نستفيد
نحن أهل المجد وشموس النهار
ففي هذا البيت الماجد إدانة واضحة وصريحة لكل حاكم لا يعرف قدر الشرف العالي من منصب الحكم، ولكل من تسول له نفسه بالنزول عن هذه المرتبة الشريفة السنية ليهين نفسه بالتلوث بجمع الأموال وترك مفاخر الرجال والأبطال.
بعد هذه المقدمة الكاشفة عن خطورة هذه الحال يلقي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ضوءاً كاشفاً على الفروق الجوهرية بين الحاكم والتاجر، ويفرق على نحو دقيق بين الحاكم الغني والحاكم التاجر، فيقول في بيان الفرق بينهما: ((التاجر يبني ثروة، والحاكم يبني دولة، التاجر يرفع رصيده البنكي، والحاكم يرفع رصيده الشعبي))، لتكون هذه الكلمات بمثابة الوخزة التي توقظ الضمير الأخلاقي للحاكم التاجر، كي يبتعد عن هذا الخيار الذي يثمر مثل هذه الثمرات النكدة الهزيلة، فشتان شتان بين من يبني دولة وبين من يبني ثروة ستؤول إلى النفاد لا محالة، وشتان بين من يرفع رصيده الشعبي ويغرس محبته في قلوب مواطنيه وبين من يرفع رصيده البنكي الذي لن يستعمله، ولن يستفيد منه في أغلب الأحيان كما دلت الشواهد عليه في مصائر كثير من الحكام المتجبرين الذين لم يجدوا لهم مأوى في أرض الله الواسعة العريضة بعد أن دارت عليهم الدوائر، وتخلخلت عروشهم التي لم تكن تستند في الواقع إلى أساس متين.
وبخصوص فكرة الحاكم الغني يبدع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في إضاءة هذه الفكرة وتوضيحها حين يقول: ((قد يكون الحاكم غنياً ولديه ثروة وأملاك، وهذا أفضل، حتى لا يمد عينيه لمال غيره، ولا يضعف أمام إغراءات المادة فتفسد الدولة، ولكنه لا يكون تاجراً))، ففي هذه الكلمات الحكيمة تفريق دقيق وصحيح بين الحاكم الغني الذي وصل إلى الحكم وهو من أهل النعمة والثراء وبين الحاكم الذي يريد استغلال منصبه للوصول إلى الثراء الفاحش، من خلال فكرة التجارة التي لا تليق بالحاكم الذي هو مسؤول عن صيانة أموال الناس لا السطو عليها واحتجازها في حساباته الخاصة.
ومن وحي التجربة الخاصة يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على خطورة هذا الخيار الذي يسلكه الحاكم الضعيف البصيرة وما يترتب عليه من النتائج الوخيمة فيقول: ((رأيت الكثير من تجارب الدول، ورأيت كيف انتشر الفساد وانهارت الأنظمة عندما ترك الحكام الحكم وترسيخ الدولة وبناء المؤسسات، ونزلوا لجمع الأموال ومنافسة التجار))، ولو لاحظنا كيف استخدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، لفظ ((نزلوا)) ليسجل سموه إدانته القوية الصريحة لهذا الخيار الذي يطيح بالحاكم من سدة الحكم العالية إلى قاع الأسواق ودكانين الحياة وحوانيتها التي لا تليق بحاكم يحمل قلباً شريفاً وتنطوي جوانحه على قلب شجاع وهمة عالية.
((إذا اختلط الحكم بالتجارة فقدت الثقة، وتآكلت العدالة، واختفت المنافسة، وانتشر الاحتكار، واتجه الاقتصاد نحو الانهيار))، بهذه الكلمات القوية الواضحة يشير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى النتائج التي ستظهر وتسيطر على الحياة حين يترك الحاكم مكانه الطبيعي ويغادره إلى ساحة التجار، حيث تفقد الثقة وتختفي العدالة والمنافسة ويتجه الاقتصاد كنتيجة حتمية نحو الانهيار، ليضرب سموه مثلاً حياً على الحاكم النزيه القائم بشؤون الحكم وحماية الوطن والشعب حين يقول: ((لو كان الحكم يصلح مع التجارة لكان زايد وراشد من أكبر التجار، ولكنه يفسده))، وسبب ذلك هو ما علل به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه الحقيقة حين قال: ((الحاكم هو خليفة الله في أرضه وبين عباده))، ثم فصل هذه المهام الكبرى للحاكم بقوله: ((يقوم على مراعاة مصالحهم، ورعاية ضعفائهم، وإقامة العدل بينهم، وتطوير اقتصادهم، وحماية حدودهم، وبناء مستقبل أجيالهم، وترسيخ مكانتهم واحترامهم بين شعوب الأرض))، فكيف يترك الحاكم المتبصر كل هذه المهام العظيمة ليضع كل طاقته في جمع هذا الحطام، وهو ما فسره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بقوله: ((كيف يصلح ذلك مع مَنْ همه التجارة وشاغله الأكبر زيادة أمواله ؟)).
ثم كانت الخاتمة مع الإرث الذي يتركه كل من الحاكم والتاجر، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قائلاً: ((الحاكم إرثه دولة مجيدة، وشعب قوي، وأمة عزيزة، والتاجر إرثه المال، والذي يريد جمع المجد من أطرافه لا ينزل السوق لجمع الأموال من الناس)).
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
قمة الإمارات وإفريقيا للاستثمار السياحي تناقش أهمية تقديم إفريقيا ...
1.1 مليار دولار لإنشاء مركز "إنترنت الذكاء الاصطناعي" في سيؤول...
رئيس الوزراء يهنئ القاضي بتوليه منصب رئيس مجلس النواب...
المجتمع شريك في القوة الإعلامية...
صانع السلام.. كيف قاد الرئيس السيسي مفاوضات الهدنة ووضع إطارا لحل ال...
البنك المركزى الهندى يسهل المدفوعات بالروبية لشركاء التجارة الحرة...