من يقود من.. العقل البشري أم الذكاء الاصطناعي؟

(MENAFN- Al-Bayan) لم يعد الذكاء الاصطناعي ضيفاً عابراً على حياتنا، بل تحوّل إلى قوة صامتة تتحرك خلف الكواليس لتغيّر كل ما نعرفه عن العالم، في التعليم يوجّه العقول، وفي الصحة ينقذ الأرواح، وفي النقل يختصر المسافات والوقت، غير أن دخوله إلى الأمن يجعل المشهد مختلفاً كلياً، فالأمر هنا لا يقتصر على تقنية متطورة، بل يتجاوزها إلى سؤال وجودي يتعلق بالثقة والطمأنينة وحدود الاستقرار، كيف يمكن لعقل رقمي لا ينام أن يصبح شريكاً في صناعة الأمن، ومتى يتحول من أداة للحماية إلى عنصر يعيد صياغة علاقة المجتمع بمؤسساته؟

حين نتأمل حضور الذكاء الاصطناعي، نجد أنفسنا أمام مشهد مزدوج، في وجهه المشرق، يقف كأداة استباقية غير مسبوقة: أنظمة مراقبة قادرة على تحليل آلاف الصور في الثانية الواحدة والتقاط سلوكيات غير طبيعية قبل أن تتحول إلى تهديد، برمجيات ترصد محاولات الاختراق الإلكتروني فور ظهورها وتمنعها قبل أن تتوسع، خوارزميات تنظم حركة الحشود في الفعاليات الكبرى بحيث تقلل من الأخطار وتزيد من الانسيابية، هذه القدرات تجعل المؤسسات الأمنية أكثر استعداداً وأكثر سرعة في الاستجابة، وتمنح المجتمع إحساساً بأن الأمن لم يعد ينتظر وقوع الحوادث بل يسبقها بخطوة.

لكن في الوجه الآخر، يطل السؤال: كيف نضمن أن هذه التقنيات لن تتحول إلى عبء على خصوصية الأفراد إذا ما حملت الخوارزميات تحيزات غير مقصودة؟ وكيف نمنع أنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها من أن تصبح هدفاً للاختراق أو الاستغلال؟ هذه التحديات لا تعني رفض التقنية، بل تعني أن النجاح في استخدامها يتوقف على وعي مؤسسي ومجتمعي يوازن بين الحاجة إلى التطور والحفاظ على القيم الإنسانية.

التجارب العالمية تقدم لنا نماذج واضحة على هذا التوازن، في سنغافورة، على سبيل المثال، جرى توظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة الأمن الحضري عبر شبكة من الكاميرات والأنظمة الذكية التي تراقب الشوارع والمرافق العامة، النتيجة كانت انخفاضاً في معدلات الجريمة وتحسناً في سرعة الاستجابة، وهو ما عزز ثقة المجتمع في أن مؤسساته تواكب التحديات الحديثة، وفي المملكة المتحدة، استخدمت الشرطة أنظمة التعرف على الوجه في الفعاليات الرياضية الكبرى، مما ساعد على منع دخول مطلوبين ومشتبه بهم قبل وقوع أي خطر، لكن التجربة أثارت جدلاً واسعاً حول مسألة الخصوصية، ما دفع الجهات المختصة إلى وضع معايير أشد صرامة لضمان عدم إساءة الاستخدام.

أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد جاءت مبادرات الذكاء الاصطناعي ضمن رؤية وطنية لا تكتفي بتبني التقنية، بل تضع لها ضوابط تضمن توظيفها في خدمة المجتمع، ويبرز نموذج K2 Think الذي أطلقته جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي مثالاً واضحاً، حيث أُتيح بشكل مجاني ومفتوح للجميع ليؤكد أن الابتكار يقترن بالمسؤولية، ومع إطلاق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031، رسخت الإمارات موقعها كمركز عالمي يوازن بين التطور التقني والبعد الإنساني.

هذه التجارب، على تنوعها، تقدم درساً واحداً: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أجهزة أو خوارزميات، بل هو انعكاس للوعي الذي يوجّهه، فإذا كان الوعي حاضراً، فإن النتيجة تكون أمناً أكثر قوة وثقة، وإذا غاب الوعي، فإن التقنية نفسها قد تصبح جزءاً من المشكلة.

الفرصة أمامنا اليوم كبيرة، ما نعيشه من تسارع تقني يفرض علينا أن نتعامل معه بحكمة، وأن ندرك أن هذه الأدوات ليست بديلاً عن الإنسان، بل شريكاً له، فالعقل البشري يظل المصدر الأول للقرار الأخلاقي والمسؤول، بينما الذكاء الاصطناعي يعزز هذا القرار ويوسع قدراته، هذه الشراكة بين الإنسان والتقنية هي التي ستصنع مستقبل الأمن.

لذا فالذكاء الاصطناعي حين يقوده إنسان مسؤول يصبح ضمانة لمجتمع أكثر طمأنينة واستقراراً، وحين يترك بلا وعي أو ضوابط يتحول إلى عبء لما نحاول حمايته، وما نصنعه اليوم من خيارات وتوجهات سيحدد شكل أمن الغد، ولهذا فإن النقاش حول الذكاء الاصطناعي ليس نقاشاً تقنياً فحسب، بل نقاش مجتمعي يرسم ملامح المستقبل، يمكن اختصار المعادلة ببساطة في أن: ذكاء اصطناعي + وعي إنساني = أمن أذكى، أقوى، وأكثر إنسانية.

MENAFN26102025000110011019ID1110250108

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.