
العبث الدستوري في زمن الإبادة
إن مدن العالم تضجّ صراخاً، والناس الأحرار ينتفضون في أرجاء المعمورة، نصرةً لأهل غزة، وأهل المقاطعة مشغولون بوضع دستور يمكّن أهل المقاطعة، كما قيل لنا، من الانتقال من مرحلة ((السلطة)) إلى مرحله ((الدولة)). إن هذا النوع من الانشغال يدل على حسّ مفرط في البلادة، وعلى دور مسؤول في المقاطعة يوزع النكد بالقسطاس، لكي ينال كل ذي نصيب نصيبه من ذاك القهر والإحباط.
إن العبقرية التي تمّ تخميرها في جحور المقاطعة، خرجت علينا بفكرة وضع ((دستور مؤقت)) دون بیان الأسباب الموجبة على نحو رسمي، ولكن المحرقة الجارية في غزة تفرض علينا الاستنتاج أن لها علاقة بالدستور المقترح، لأن كل شيء متوفر لأهلنا في غزة إلا الدستور! ذلك أن أهل المقاطعة يستعدون لتولي زمام الأمور في غزة في ((اليوم التالي))، وهو اليوم الذي ما زال سماسرة العقارات من توني بلير وجاريد كوشنر وشركائهما المعلنين والمخفيين، يتسابقون على الفوز به، قبل أهل المقاطعة الذين ينشغلون بالحكم والسلطة وخدمة الاحتلال، بينما بلير وكوشنر ينشغلان بترتيب أوضاع الريفييرا.
ومن يطلع على أسماء أعضاء اللجنة المكلفة بصياغة الدستور، نجد أنهم في غالبيتهم العظمى من أهل الرأي والخبرة والكفاءة، ولهم من التقدير والاحترام ما يستحقونه، إلاّ أن اللجنة لا تضمّ شخصاً واحداً من فلسطينيي الخارج، ما يقطع بأن أهل المقاطعة ما زالوا يرضخون لما فرضته سلطة الاحتلال الصهيوني، من تقسيم الشعب الفلسطيني الى فلسطينيي الداخل (أي الأراضي الفلسطينية المحتلة) وفلسطينيي الشتات. والدولة الفلسطينية التي يصاغ لها دستور مؤقت ستكون بالضرورة دولة نصف الشعب الفلسطيني .ومن اللافت للنظر أن الدستور، أي دستور لأي دولة، حين يتم الانتهاء من صياغته سوف يعرض على برلمان منتخب، أو مجلس تشريعي، أو مجلس تأسيسي، فمن الذي سوف يصادق ويعتمد الدستور ((الفلسطيني المؤقت))، لاسيما وأن المجلس التشريعي، الذي لم يأت على مقاس سلطة الاحتلال، فتمّ تشتيت أعضائه، والمجلس الوطني مضى عليه حين من الدهر وهو في ثلاجة أهل المقاطعة، ولم يبق من أحد لاعتماد الدستور، إلاّ الأخ محمود عباس. من المفترض أن هذا يكفي، ولكن ذلك يتنافى مع کل مبادئ الفقه الدستوري، إذ لم يصدف أن شخصاً واحداً، مهما أوتي من علم وفصاحة، اعتمد دستوراً بالنيابة عن نصف شعبه .
هل يبشرنا أهل المقاطعة أن مجرد اعتماد ((الدستور المؤقت)) سوف يوقف محرقة غزة ويحول جحيمها إلى نار تكون برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام، أم سيوقف استعمار أرض الضفة الغربية ونشر المستوطنات، أم أن المهجرين من مخيمات طولكرم وجنين سوف يعودون إلى مخيماتهم، عبر أهازيج النصر وهم يلوحون بـأيديهم بـ))الدستور المؤقت))؟ حين عاد المرحوم ياسر عرفات إلى أرض الوطن على جناح اتفاقية أوسلو، كان يصرّ على أن تكون هناك سيارة جاهزة دائماً تحتوي على بساط أحمر كالذي يُفرش لقادة الدول عند زيارتهم إلى دولة أخرى، وتحمل فرقة موسيقية جاهزة تدربت على عزف السلام الوطني. فإذا أراد أن يزور نابلس مثلا، تسبقه الجوقة التي تحمل البساط الأحمر والفرقة الموسيقية، وحين يصل إلى المقاطعة أو البلدية، يتم استقباله في نهاية البساط الأحمر، ويتم عزف السلام الوطني، وكان يخلق الانطباع بأن عرفات أصبح مثل ((رئیس دولة)) یمشي علی بساط أحمر ويُعزف له السلام الوطني. والآن، في ظل العهد الجديد، دخلنا مرحلةً إضافيةً وجديدة وهي بدلاً من البساط والسلام الوطني، سوف نشهر دستوراً مؤقتاً.
يا أهل المقاطعة الكرام، لا تُخلق الدول برموز فولكلورية، وبمظاهر لا تعكس مضامين جدّية، ذلك أن البساط الأحمر والجوقة الموسيقية والدستور، مؤقتاً كان أم دائماً، لا يوقف مجزرة، ولا يُطعم جوعى غزة ولا يستقيم مع استمرار الاستيطان ومع وجود تسعمئة حاجز يحول القرى والمدن الفلسطينية الى سجون كاملة الدسم.
إن الجري وراء وهم الدولة، أوقع القيادة الفلسطينية في حبائل شياطين الاستعمار، ورئيسهم توني بلير في الرباعية، وأورثها أمراضاً نفسية مرهقة، ولذلك ربما كان الأجدى في القيادة إعادة النظر في سيرها ومسيرتها، وأن تستمع إلى آراء محايدة من غيورين على الوطن والقضية الوطنية. إن سلوك القيادة منذ أكثر من ثلاثة عقود يؤكد تمسكها بالعبث والفهلوة وتصنيع الأوهام وصناعة الأصنام، وكأن غزة لا تعيش في محرقةٍ مستعرة.
ربما أوحي لأهل المقاطعة، أن الذهاب لهيئة الأمم هذا العام، وبيد أهل المقاطعة دستور سوف يصطنع الوهم بأن كل مواصفات الدولة وعناصر الدولة أصبحت جاهزة، بما في ذلك الدستور، وها نحن أتينا لكم اليوم بدستور حديث، محكم الصياغة، مليء بنصوص تتعلق بحقوق الإنسان، ولم يبق لنا إلآّ أن تعلنوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة قيام الدولة الفلسطينية. وإذا صدف ووقعت المعجزة وتمّ الإعلان، فماذا بعد؟ هل يتصور أهل المقاطعة أن يقوم الأعضاء في الجمعية العامة بالذهاب إلى الأراضي المحتلة لفرض قرارهم على سلطات الاحتلال؟ ثم ماذا سيكون ردّ أهل المقاطعة على أسئلة ممثلي هيئات حقوق الإنسان، في ما لو سمح لهم بطرح أسئلة مثل: لقد تمّ قتل نزار بنات على يد مسؤولي أمن السلطة، فأين وصلت محاكمة القتلة؟ ثم إن دستوركم يحترم تداول السلطة، فماذا كان دوركم حين تم انقلابكم على انتخابات المجلس التشريعي في عام 2006 وهل ستكررون التجربة؟ وهل تلقيتم أوامر من كونداليزا رايس وأسلحة من إسرائيل للانقلاب على الانتخابات الديمقراطية؟ وينص دستوركم على حق التعبير وحق التظاهر، فكمّ مرّة قمعتم المظاهرة في دوار المنارة دعماً لغزّة؟ من المناسب أن يكون أهل المقاطعة على استعداد للإجابة على هذه الأسئلة الخبيثة، كي يعودوا إلى أرض الدولة الفلسطينية التي تعج بالمستوطنات، وتغمر نار الإبادة شطرها الآخر وهم مرفوعو الجبين وبأيديهم ((الدستور المؤقت))، ولله في خلق أهل المقاطعة شؤون!
محام وكاتب فلسطيني
القدس العربي
مقالات Radio Al-Balad اخر الاخبار هل ينعى الأردن ((وادي عربة))؟ رؤية التحديث الاقتصادي: بين الاستراتيجية وقابلية التطبيق ماذا بعد انفجارات الدوحة؟ شباب الأردن بين التحدي والفرصة: من أرقام البطالة إلى هندسة التشغيل ريم الجازي وتحدي القيادة الإعلامية في الأردن بين النظام القديم والجديد... أي مستقبل ينتظر طلبة التوجيهي
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
تزامنًا مع عمرة المولد النبوى الشريف.. ملايين المعتمرين فى صحن الطواف.. تسهيلات لمؤدى المناسك عبر نسك عمرة.. إمكانية تصميم الباقات وفق رغبات المعتمر.. والسعودية: أكثر من 15 مليون معتمر خلال الربع الأول 2025
شاهد.. وفاة حارس مرمى بعد تصديه لركلة جزاء
وزارة الصحة: تراجع متوسط انتظار الحضانات من 20 ساعة إلى 7 ساعات
واشنطن تكتفي بالتعازي... ولا قرار حول المساعدات بعد زلزال أفغانستان
باش هاوس تعالج واحدة من أندر المشكلات التقنية على منصات ميتا لشركة بلاك أند الكويتية
القنوات الناقلة لمباراة الأردن وتايبيه في تصفيات كأس آسيا تحت 23 عاما