أثر الخوارزميات الرقمية في تشكيل الذوق العام - جريدة الوطن السعودية

(MENAFN- Al Watan) لم تعد الخوارزميات مجرّد أدواتٍ تصنّف المحتوى أو ترتّب أولويات المشاهدة، بل تحوّلت إلى قوة خفيّة تُبرمج الأذواق وتعيد تشكيل وعي الناس. نحن لا نرى اليوم ما نريد فحسب، بل ما تقرّر المنصّات أن نريده. وهكذا، تسلّل إلى وعينا مفهوم خطير: أن التفاهة أصبحت ((حقًّا مشروعًا))، بينما غدا الدفاع عن القيمة وكأنه ((واجب ثقيل)) أو معركة خاسرة.
كانت الأذواق في الماضي تُصاغ عبر الكتب والمجالس والمدارس والأسرة، تتناقلها الأجيال كتراكمٍ من الحكمة والخبرة. أما اليوم، فالمشهد مختلف: فمقطع قصير على منصة رقمية قد يحصد ملايين المشاهدات في ساعات قليلة، بينما فكرة عميقة أو عمل أدبي أو حوار معرفي لا يلقى إلا الفتات من الانتباه. لقد قلبت الخوارزميات موازين الذوق؛ فلم يعد معيار القيمة هو المعنى أو الفائدة، بل عدد الإعجابات ومدة المشاهدة.
في زمنٍ تحاصر فيه الشاشات أعيننا وأسماعنا، لم يعد الذوق العام ثمرةً طبيعية لثقافةٍ تتوارثها الأجيال، بل صار صناعة رقمية تُدار وفق حسابات باردة خلف الكواليس. يتدرّب الناس، من دون أن يشعروا، على أن يقبلوا بالسطحيات ويكتفوا باللحظة العابرة، ويضحكوا ضحكًا فارغًا يُخفي خواءً داخليًّا. وكأن التفاهة أصبحت ((الطريق الأسهل)) لملء فراغ الوقت، لكنها لا تملأ فراغ الروح، بل تزيده عطشًا.
لكن التفاهة، مهما حاولت أن تتزيّن، لا تبني إنسانًا ولا ترفع مجتمعًا. هي كالسراب؛ يلمع أمام العيون لكنه يترك الروح عطشى. في ظاهرها بهجة عابرة، لكنها في حقيقتها إدمان على الضحك القصير والتسلية الفارغة. أما القيمة، فهي ماء الحياة؛ بها تستعيد الروح عافيتها، وبها تحفظ الأمم توازنها. القيمة ليست مجرد أخلاق جامدة، بل هي بذور تُثمر معرفة وحوارًا ونورًا يهدي الأجيال القادمة.
حين نترك ذوقنا أسيرًا للخوارزميات، فإننا لا نفقد متعة ساعة عابرة وحسب، بل نفقد معها بوصلة الصواب والخطأ. نُسلّم ذواتنا لصناعة لا ترى فينا إلا أرقامًا ونقرات. الذوق العام ليس ترفًا جماليًا يمكن الاستغناء عنه، بل هو مسؤولية أخلاقية تصوغ ملامح المستقبل وتوجّه مسار الأجيال. فالجيل الذي يعتاد الضجيج يَصعُب أن ينصت للحكمة، والمجتمع الذي يكتفي بالسطحيات يَصعُب أن يبني حضارة راسخة.
إن مقاومة ((حق التفاهة)) لا تكون بالصراخ ولا بالمنع، بل باستعادة ((واجب القيمة)). أن نختار ما يُغذّي العقول بدل أن يُخدّرها، وأن نمنح أصواتنا لمن يُلهم بدل من يُلهي، وأن نتذكّر أن كل نقرة موقف، وكل متابعة رسالة، وكل إعجاب شهادة أخلاقية قبل أن يكون تسلية عابرة.
واجب القيمة يبدأ من تفاصيل صغيرة: اختيار كتاب بدلاً من مقطع عابر، متابعة صوت عاقل بدلاً من ضجيج فارغ، مشاركة فكرة تفتح أفقًا بدلاً من طرفة تنطفئ بعد ثوانٍ. إنها مسؤولية الفرد كما هي مسؤولية المجتمع، ومسؤولية الإعلام كما هي مسؤولية الأسرة والتربية. فالقيمة ليست وصاية تفرض من فوق، بل التزام جماعي بأن نصنع بيئة ثقافية أرقى، تحفظ للإنسان مكانته وتعيد للذوق العام وزنه.
فالذوق ليس قدرًا يُفرض علينا، بل صناعة نشارك في غرسها كل يوم. إن أحسنا الزرع أثمر معرفة وحكمة ونورًا يهدي، وإن أهملناه لم يُثمر سوى فراغ وضجيج. مقاومة التفاهة تبدأ بالوعي، وتستمر بقرارٍ واعٍ أن نزرع في فضائنا الرقمي قيَمًا تستحق أن تُعاش وتُورّث. وكما قال أحد الحكماء: ((المستقبل ليس ما ننتظره، بل ما نزرعه اليوم)).

MENAFN02092025000089011017ID1110005507

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.