السرد الواقعي.. مرآة الحياة كما هي

(MENAFN- Al-Bayan) أصبح اليوم السرد الواقعي هو أحد أكثر أنماط الأدب قرباً من القارئ، لأنه يضعه وجهاً لوجه أمام الحياة كما تُعاش بالفعل، بلا مبالغات أو زخارف أسطورية أو رمزية، غايته أن يصوّر الواقع بكل تناقضاته، الاجتماعية والسياسية والنفسية، بحيث تبدو الحكاية مأخوذة من صميم التجربة الإنسانية اليومية.. إنه الأدب الذي يضع في متنه هموم الناس البسطاء، تفاصيل المدن والقرى، وحركة التاريخ في حياة الأفراد والجماعات.

أما نشأة هذا الاتجاه السردي الواقعي، فكانت في أوروبا وروسيا في القرن التاسع عشر مع صعود الطبقة الوسطى، وتحوّلات المجتمع الصناعي، فبرز كتّاب مثل الفرنسي فلوبير، والذي كان أهم عمل لاذع له رواية ((مدادم بوفاري))، بتفاصيل عميقة حول الشخصية وانفعالاتها وواقعها، إلى الروسي تولستوي في رواية ((أنّا كارنينا))، كمثال بارز لعمل انتقد فيه الظواهر الاجتماعية، بالمقابل، اهتمامه بالقضايا الإنسانية من خلال الحب والزواج والعائلة.. والبريطاني تشارلز ديكنز قدم أعمالاً تصور العُقد الاجتماعية والظلم والاستغلال، ولعل أبرز أعماله التي تنتمي إلى السرد الواقعي رواية ((ديفيد كوبرفيلد))، حول قهر اليُتم والظلم الاجتماعي.

هؤلاء نقلوا الحياة الاجتماعية كما هي، بآلامها وأحلامها، من دون أن يختبئوا وراء الرموز أو الملاحم، فالواقعية هنا كانت موقفاً فكرياً، بقدر ما كانت أسلوباً أدبياً، فرفضوا الهروب إلى الأسطورة، وكان سعيهم جاداً لمواجهة الواقع، بجرأته العارية.

في الأدب العربي، ارتبط السرد الواقعي بمرحلة النهضة والاحتكاك بالغرب، ثم تطور مع تحولات المجتمعات العربية في القرن العشرين، فأخذ الروائيون يكاشفون عن تحولات السياسة والاقتصاد والدين والعائلة، وكان الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، قد صوّر ذلك في روايته ((رجال في الشمس))، ورواية ((عائد إلى حيفا))، المأساة الفلسطينية بلغة واقعية مؤلمة، حيث الأبطال أفراد عاديون يواجهون قدراً قاسياً.. كذلك نجد عند الروائي السوري حنّا مينه في رواياته عن البحر، مثل ((حكاية بحار))، و((الشراع والعاصفة)).. صورة حقيقية للعمال والبحّارة وصراعهم مع الفقر والطبيعة، وهو المعروف في مقولته: أنا صوت الكفاح للإنسان.

في دول الخليج العربي ودولة الإمارات، برزت تجارب اعتمدت الواقعية في تصوير تحولات المجتمع من زمن البحر والغوص والقرية، إلى زمن المدينة والحداثة، مثل سعود السنعوسي، وروايته الشهيرة ((ساق البامبو))، والبحث عن الاعتراف بحق الابن، من أسرته وجذوره، من خلال البطل القادم من آسيا، يبحث عن والده الكويتي، وعلي أبو الريش في رواياته مثل ((الاعتراف)) و((السدرة))، قدّم نماذج واضحة للسرد الواقعي، حيث الشخصيات تعيش صراعات اجتماعية ونفسية متأصلة في البيئة المحلية.. وهكذا هو سرد الواقع في مواجهة التقاليد، بالاعتماد على المنطق والواقع نفسه ليكون مادة الحكاية.

أهمية السرد الواقعي، تكمن في أنه يمنح الأدب وظيفة تنويرية واجتماعية، فهو لا يكتفي بالمتعة، بل يعرّي التناقضات، ويكشف الظلم، ويسائل القارئ عن موقعه من العالم.. والقارئ حين يواجه شخصية روائية تعاني القهر أو الفقر أو الاغتراب، يدرك أن الأدب ليس بعيداً عن حياته، بل هو مرآة تكشف ما قد يحاول المجتمع إخفاءه.. وبهذا المعنى، يبدو السرد الواقعي ليس مجرد وصف محايد للواقع، بل هو موقف أدبي وأخلاقي، إنه دعوة للنظر إلى ما يجري من حولنا بصدق، وإعادة اكتشاف الإنسان العادي بوصفه بطل الحكاية.. ولعل أهم ما يقدمه أنه يذكّرنا بأن الأدب لا يعيش في الأبراج العاجية، بل في الأزقة والبيوت والمقاهي والموانئ، حيث تنبض الحياة بكل ما فيها من جمال وقسوة.

MENAFN11122025000110011019ID1110470380

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث