تجميد الأصول الروسية.. سلاح أوروبي ذو حدّين
هذه القضية ليست مجرد خلاف تقني مالي، بل زلزال سياسي وقانوني واقتصادي يضع أسس النظام الليبرالي الذي قامت عليه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على صفائح متحركة، لأنها مخيّرة بين هويتها كقوة قانونية وكيان أخلاقي من جهة، وكونها لاعباً جيوسياسياً يحاول أن يفرض نفسه في معادلة صراع.
تناقض عميقوتُكشف هذه الأزمة عن تناقض عميق داخل الكتلة الأوروبية. فمن ناحية، هناك إصرار على الوقوف مع أوكرانيا ضد روسيا، وتحشيد الرأي العام على تحميل موسكو "كلفة الحرب". لكن من ناحية أخرى، ثمة مخاوف استراتيجية طويلة المدى؛ إذ أن استخدام الأصول المجمدة خارج الأطر القانونية يخلق سابقة خطيرة تمس المصالح الأوروبية مستقبلاً. فماذا سيكون الوضع عندما تقرر قوة كبرى أخرى مصادرة أصول أوروبية تحت ذرائع مشابهة؟
هذا الإجراء إن حصل يفتح الباب على عدم استقرار دولي، حيث تصبح الثروات رهائن للاعتبارات السياسية. ويعتبر التصريح البلجيكي الحاد الذي وصف مصادرة الأصول الروسية بـ "السرقة" دليلاً على انقسامات داخلية في أوروبا بين دول تدفع باتجاه التجميد، وأخرى ترى أن كسر القواعد يُضعف من صمود النظام الرأسمالي نفسه.
صرخة دفاعالتحذير الصادر عن شركة الإيداع والمقاصة الأوروبية "يوروكلير"، وهي شريان النظام المالي الأوروبي، ليس مجرد إشارة إلى مخالفة تقنية، بل صرخة دفاع عن النظام المالي في أوروبا وعن القانون الدولي، باعتباره حجر الزاوية في المشروع الأوروبي القائم على حماية الملكية واستقلالية القضاء.
هذا التحذير يشير إلى أن مصادرة الأصول خارج نطاق القضاء الدولي تدفع المستثمرين والخصوم السياسيين للشعور بأن المال في أوروبا لم يعد آمناً إلا إذا كان متوافقاً مع الاعتبارات السياسة، وهذا من شانه تقويض أسطورة أساسية للقوة الناعمة لقارة طالما نظر لها بأنها فضاء للحماية القانونية بغض النظر عن الرياح السياسية.
لذلك يعتبر المعارضون لهذه الخطوة أن تجاوز مبدأ السيادة وحصانة أموال الدول ينسف مبادئ ثابتة في المعاهدات والقانون والأعراف الدولية، ويعطي ذريعة لدول أخرى كي تبرر انتهاكاتها، وسيعتبر أي تصد لها ازدواجية معايير، ما يفضي إلى فوضى قانونية شاملة.
خطر وجوديوعندما تهدد "يوروكلير" بزعزعة ثقة المستثمرين، فهي لا تلعب ورقة تفاوضية، بل تعلق جرس الإنذار من خطر وجودي، حيث أن الثقة هي العملة الوحيدة الأكثر قيمة في النظام المالي، وإذا شك المستثمرون أن أصولهم في أوروبا قد تُصادر بقرار سياسي، فإنهم سيهربون بأموالهم إلى أماكن أكثر أمناً، ما يعني ضربة قوية لمكانة اليورو، وللمراكز المالية في عواصم أوروبا.
وبنظر المعارضين، فإن محاولات تمويل إعادة إعمار أوكرانيا عبر هذا الأسلوب قد يُثقل كاهل الاقتصادات الأوروبية لسنوات قادمة بفواتير باهظة الثمن، تفوق بكثير قيمة الأصول المجمدة.
لذلك، فإن أوروبا تقف عند مفترق طرق، حيث أن مصادرة الأصول الروسية، رغم جاذبيتها السياسية الآنية، تمثل انحرافاً خطيراً عن النموذج الذي جعل منها نموذجاً للاستقرار المؤسسي، ولسيادة القانون، والاستقلالية النسبية اقتصادياً عن التقلبات السياسية.
وفي حال اللجوء لهذه المغامرة التي يصعب التكهن برد فعل موسكو عليها، هل تبقى أوروبا حصناً للنظام القانوني الليبرالي، أم تتحول إلى قوة جيوسياسية تضع المصلحة السياسية قصيرة المدى فوق كل المبادئ؟
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

Comments
No comment