البعد المعرفي للاستشراف

(MENAFN- Al-Bayan) أصبح مصطلح الاستشراف واسع الحضور في الخطاب الحكومي العربي، غير أن شيوعه يطرح سؤالاً ضرورياً: هل نتعامل معه كونه منهجاً يعيد صياغة القرار وطريقة إدارة الزمن، أم كونه صياغة حديثة للتخطيط التقليدي؟ فالممارسة الحقيقية للاستشراف لا تقوم على توقع ما سيحدث، بل على فهم ما يمكن أن يتغير، وهذه القدرة – كما تشير دراسة حديثة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2025 – تمثل معياراً لقياس جاهزية الحكومات في عالم تصبح فيه الاستجابة المتأخرة غير كافية لمواكبة حجم المتغيرات.

وتوضح الدراسة أن الاستشراف يختلف عن التنبؤ والتخطيط طويل المدى، فالتنبؤ يسعى إلى معرفة اتجاه واحد محتمل، والتخطيط ينظم الموارد في إطار زمني معروف، أما الاستشراف فيعتمد على تحليل الاتجاهات المتحركة، وبناء سيناريوهات متعددة، تساعد على تقليل الضبابية، ومن ثم دعم القرارات قبل ظهور التحديات، وهذا التفريق يكشف أن الاستشراف ممارسة ذهنية قبل أن يكون ممارسة تقنية، وأن قيمته الحقيقية تكمن في قدرة الحكومات على إدارة ما قد يحدث وفق سياسة ونهج مدروس، غير أن هذا الإطار النظري يكشف أيضاً عن نقطة توتر حقيقية، فحين يتحول الاستشراف إلى بروتوكول إداري يعاد إنتاجه شكلياً دون تغيير جذري في طريقة اتخاذ القرار، تفقد المؤسسات مرونتها، وتتحول تقارير المستقبل إلى وثائق لا تعكس صلب السياسات، وهنا يتباين الفاعلون بين من يستخدم لغة الاستشراف، وبين من يمارس الاستشراف نفسه، وبين من يصف المستقبل، ومن يُعيد هندسة القرار ليكون قادراً على استيعاب احتمالاته، وهذه الفجوة هي ما يحدد فعلياً من يصنع المستقبل، ومن يستهلك خطابه.

وعبر هذا المدخل يمكن فهم خصوصية التجربة الإماراتية، فالدولة لا تتعامل مع الاستشراف وظيفة موازية، بل بنية تفكير تدخل في صناعة القرار نفسه، ويتجلى ذلك في الطريقة التي تراجع بها الأولويات كلما ظهرت معطيات جديدة، وفي قدرة المؤسسات على تحويل التحولات الاقتصادية والتقنية إلى سياسات قابلة للتنفيذ، وتدل الاستراتيجيات الوطنية، مثل رؤية الإمارات 2071، وبرامج الاقتصاد المعرفي، والتحول الرقمي، على نموذج يربط بين الرؤية والتنفيذ، وينظر إلى الزمن باعتباره جزءاً من منظومة العمل، لا مجرد سياق تعلق عليه الأهداف، وتنسج من خلاله الرؤى والمخرجات.

ويتأكد هذا النهج في آليات المتابعة التي تبنيها الجهات الحكومية لرصد المتغيرات في لحظتها، وتقدير أثرها على القطاعات المختلفة، ثم ترجمة هذه القراءات إلى خيارات تنفيذية تراجع دورياً، وهذا يفسر قوة الإمارات في إدارة ملفات معقدة مثل الذكاء الاصطناعي واقتصاد البيانات، إذ تدار هذه المشاريع بوصفها أنظمة قابلة للتطور والقياس المستمر لا مبادرات ظرفية، ما يجعل السياسات أكثر قدرة على الاستجابة للمتغيرات المتسارعة.

ومن هذا الإطار يتضح البعد المعرفي للاستشراف في التجربة الإماراتية، حيث يستخدم ((الخيال المنتج)) أداة لإعادة صياغة الأسئلة والاحتمالات، ولتوسيع نطاق القراءة بعيداً عن حدود البيانات الرتيبة، فالخيال هنا لا يستدعى لابتكار سيناريوهات متخيلة أو احتمالات بعيدة، بل لتفكيك التحولات وتفسيرها في سياقها الأوسع، وربطها بما يتغير في البنية الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وبهذا يصبح الخيال امتداداً للعقل التحليلي، يعزز قدرته على رؤية ما وراء الأرقام، ويمنح المؤسسات مساحة أوسع لتقدير ما يستدعي التدخل فعلياً، وما يمكن أن يترك ليأخذ مساره الطبيعي ضمن دورة العمل المؤسسي، وهذه المقاربة تمنح صانع القرار قدرة أكبر على التمييز بين المتغيرات الطارئة، وتلك التي تحمل أثراً بنيوياً، وتساعد على بناء خيارات تنفيذية أكثر مرونة، كما تقوم على إدراك دقيق لحدود الواقع وإمكاناته.

وفي ضوء هذا كله يصبح سؤال: من يصنع الدولة الاستشرافية؟ أقل ارتباطاً بامتلاك الأدوات وأكثر اتصالاً بامتلاك عقلية تنظيمية قادرة على إعادة ضبط أولوياتها، وفق ما يكشفه الواقع كل يوم، فالدول التي تنجح في صناعة مستقبلها، ليست تلك التي تتقن صياغة الخطط بعيدة المدى، بل تلك التي تستطيع مراجعة مساراتها بمرونة منهجية، وتحويل القراءة المستمرة للمتغيرات إلى خيارات تنفيذية قابلة للتطبيق، ومن هنا تبرز التجربة الإماراتية كونها مساراً يردم الهوة بين مفهوم الاستشراف وممارسته، ويجعل من إدارة المستقبل ممارسة واعية، تبنى على تحليل دقيق للفرص وتحولات الزمن.

MENAFN03122025000110011019ID1110434198

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث