الأخبار الأكثر تداولاً
بلومبرغ: مخترع الإنترنت لا يمكنه تخليصها من قبضة الشركات الكبرى
كانت لحظة غريبة. في وسط ملعب ينبض بالأضواء وتعلو فيه إيقاعات الطبول جلس رجل في أواسط عمره مرتدياً بدلة بيضاء من الكتان أمام أكثر من 60 ألف شخص، يكتب على كمبيوتر قديم الطراز.
بينما كان يرفع نظره، لمعت حوله جملة بأضواء ساطعة وحروف كبيرة: ((هذا للجميع)). لم يدرك كثير من نحو 900 مليون شخص شاهدوا هذه اللحظة قبل الأخيرة من حفل افتتاح أولمبياد لندن 2012 من هو هذا الرجل حتى أوضح المذيع أن تيم بيرنرز - لي هو من اخترع شبكة الإنترنت العالمية.
بعد ثلاثة عشر عاماً، يكرر بيرنرز - لي عبارته، لكن هذه المرة عبر مذكرات جعل عنوانها تلك العبارة التي كانت رسالته في افتتاح الألعاب الأولمبية. في كتابه، يفصل كيف توصل إلى الميكانيكا التقنية للويب في عام 1989 كمتعاقد في مختبر ((سيرن)) (CERN) للفيزياء في سويسرا، ويتذمر من تحول الإنترنت غير الديمقراطي في السنوات الأخيرة، إذ تجمع شركات التقنية الكبرى البيانات الشخصية وتوجه مليارات الأشخاص نحو محتوى إدماني.
يتجاهل كتاب جديد آخر توقيت نشره غريب وألفه نيك كليغ، كبير مسؤولي السياسة العالمية السابق في شركة ((ميتا بلاتفورمز))، هذه المشكلات نفسها ويقدم حلولاً فاترة. يتجاهل كلا الرجلين إظهار كيف أعادت نماذج الأعمال تشكيل الويب وتوازن القوى: بينما يخبرنا بيرنرز - لي عما كان يمكن أن يكون، فإن كتاب كليغ ((كيفية إنقاذ الإنترنت)) يقدم أعذاراً للوضع الراهن.
هذا إغفال صارخ في الوقت الذي يقحمنا فيه وادي السيليكون في عصر جديد عنوانه الذكاء الاصطناعي، عصر تبدو فيه الحوافز المالية التي تدعم الأدوات الأكثر شيوعاً مهيأة لاتباع المسار الذي سلكته وسائل التواصل الاجتماعي.
في البداية، يعد كتاب بيرنرز - لي تذكيراً رائعاً بكيفية حدوث الابتكار. فقد جاء اختراع الروابط التشعبية في الستينيات، وظهر بروتوكول (TCP/IP) قبل سنوات من استخدامه للويب. كما ساعده وجود أبوين استثنائيين شجعا لديه التفكير الحر والفضول: فقد اخترعت والدة بيرنرز - لي تقويماً دائرياً للحائط لتتبع أحداث العائلة، بينما جعل والده أطفاله يرمون الكرات بعضهم لبعض ليعرض لهم نظرية تدفق المعلومات.
أعطت هذه النشأة بيرنرز - لي نظرة خيالية للعالم وعقلاً فضولياً - غالباً ما يضيء مصباح الفكرة عندما يفترض أن يقوم المخترع بشيء مغاير. ابتكر مارك زوكربيرغ ((فيسبوك)) في جامعة هارفارد، واخترع سبنسر سيلفر من شركة ((3 إم)) (3M) أوراق ملاحظات (Post-it) أثناء عمله على المواد اللاصقة فائقة القوة. كان يفترض أن يساعد برنامج بيرنرز - لي كمبيوترات ((سيرن))(CERN) على التواصل البيني، حتى أدرك أنه يمكنه إيجاد طريقة لجميع أجهزة الكمبيوتر للقيام بذلك، باستخدام نظام أطلق عليه في البداية اسم ((ميش)) (mesh).
أصبح خريج الفيزياء من جامعة أكسفورد في غاية الحماس، على الرغم من أنه كافح من أجل التعبير عن الإمكانات الهائلة لفكرته - وكان زملاؤه في العمل يرفعون له لافتات كتبوا عليها: ((تيم، أبطئ)).
لكن كيف يمكنه ذلك؟ إن نظام دليل الملفات المتواضع الذي كان يصممه سيربط العلماء والفنانين من جميع أنحاء العالم ويجلب ((عصراً جديداً من الإبداع البشري))، وهو خليط فوضوي قد ينبثق منه أي شيء.
تعكس مذكراته حماسه، ويستخدم فيها تفاصيل تقنية عاطفية وجافة في بعض الأحيان حول عناوين (URL) و(HTTP) واللغة التي ستستخدم لتشفير الويب، أي (HTML).
لكن بيرنرز - لي كان ساذجاً أيضاً، وهي محنة شائعة لدى كثير من المبتكرين العظماء. لقد بنى البنية التحتية، وليس المنتجات، وافترض أن الآخرين سيجعلون الويب يعمل بشكل عادل.
من الأمثلة على ذلك المدفوعات الصغيرة. قال بيرنرز - لي، الذي أصبح شديد الحذر وبلغه الكلل، فيما كنا نتناول القهوة والبسكويت في لندن، إنه يندم الآن لأنه في الأيام الأولى للويب، لم يبن أحد نظاماً لتمكين المدفوعات الصغيرة والآمنة.
تخيل أنك بزيارتك لموقع إخباري على الإنترنت أو خدمة بث تستطيع دفع رسوم رمزية لقراءة مقال أو مشاهدة برنامج، مع ربط جميع الصناديق الرقمية بمحفظة إلكترونية آمنة تستخدم عبر الويب. لقد تلاشت هذه الفرصة منذ فترة طويلة، لكنها كانت ستجعل الويب اليوم مكاناً مختلفاً تماماً.
قال بيرنرز - لي: ((لقد نظرنا (إلى المدفوعات الصغيرة) في وقت مبكر))، مصراً على أنه لم ينجح شيء. إلى جانب ذلك، كما يقول، إذا حاول فرض رسوم على المستخدمين الأوائل، ((لما انطلق الويب)). لقد أراد أن يكون له تأثير كبير قدر الإمكان.
بدلاً من ذلك، انجذبت الشركات نحو الإعلان. سمح ذلك بعرض المحتوى مجاناً، لكنه خلق أيضاً حوافز مدفوعة بالنقرات أدت إلى المبالغة والمعلومات المضللة والمحتوى السام. هيمنت حفنة من الشركات على هذا الاقتصاد الجديد، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، أصبح ((تصفح الإنترنت)) يعني في الغالب قضاء الوقت على مواقع مملوكة لشركات ((ميتا)) و((جوجل)) تابعة ((ألفابت))، و((أمازون)).
تبسيط الهيكلية كان هدفاً
فضل بيرنرز - لي تجنب الإفراط في الهيكلية، مشيراً إلى أن والده كان يقول له إن الفوضى من أعراض الحياة الواقعية. قال بيرنرز - لي في حديثه معي: ((يجب أن تكون قادراً على استيعاب الفوضى. لا يمكنك استخدام نظام صارم جداً لا يستوعب سوى الجداول. والأشياء ذات الصفوف والأعمدة)).
في نهاية المطاف، كانت الشبكة بحاجة إلى هيكل مالي أذكى لضمان العدالة. في عالم موازٍ ما، ربما كان بيرنرز - لي لينجح في إنشاء مدفوعات صغيرة للويب، والناس الذين يعيشون في ذلك العالم أفضل حالاً بفضل ذلك.
لحسن حظه، يدرك بيرنرز - لي الآن المشكلة. يحاول مشروعه الحالي ((سوليد)) (Solid)، تحقيق لا مركزية في بيانات المستخدم وانتزاع السيطرة من منصات التقنية الكبرى. لكن الاعتماد المحدود لـ ((سوليد)) يوضح التحدي: فالبنية التقنية وحدها لا يمكنها منافسة الجاذبية التي تتمتع بها نماذج الأعمال التي تعتمد على الإعلانات.
حقائق القوة
المال هو أيضاً نقطة لا يبرع بشأنها كليغ. في كتابه ((كيفية إنقاذ الإنترنت))، يجادل المدير التنفيذي السابق لشركة ((ميتا)) مطولاً ضد انعدام ثقة الجمهور في شركات التقنية الكبرى، مشيراً إلى نمط تاريخي من الذعر الأخلاقي ضد ((الآلات))، من المطبعة إلى الدراجة.
لكن الجمهور لم يكن مخطئاً، حتى قبل مئات السنين، في القلق بشأن تكلفة الابتكار. لقد ساهمت الكلمة المطبوعة في ديمقراطية الذكاء ولكنها نشرت أيضاً ادعاءات، على سبيل المثال، بأن كثيراً من النساء كن ساحرات.
من الأهمية بمكان أن ينسى كليغ أن التذمر العام من ((ميتا)) لم يكن يتعلق أبداً بتقنيتها، بل بنموذج العمل الذي يدعمها، والتدفق المستمر والإدماني للمحتوى الذي انبثق عنها.
لعله ليس مفاجئاً أن الرجل الذي ضغط على الحكومات نيابة عن ((ميتا)) لمدة سبع سنوات سيعود إلى الحياة العامة بكتاب يبدو وكأنه دفاع عن صاحب عمله السابق.
كتب موظفون سابقون آخرون في ((ميتا))، ومنهم فرانسيس هاوغن وسارة وين ويليامز، جدليات، لكن يبدو أن كليغ لم يكن يخالف مديريه. ولعل ما ساعده في ذلك هو أنه أمضى ما يقرب من عقدين يعمل في السياسة قبل ذلك.
يلقي كليغ باللوم على القوى المجتمعية الأوسع في التدهور الواسع النطاق للصحة النفسية حديثاً. ويسخر من منتقديه قائلاً: ((لو كنا نستطيع عكس التقدم التقني))، متخيلاً إياهم ((يشيرون بأصابعهم إلى زر إعادة المشاركة)).
تكرار لما سلف
في الواقع، يشير معظم الناس بأصابع الاتهام إلى زوكربيرغ وخوارزميات التصنيف القائمة على التفاعل التي طبقها على ((فيسبوك)) و((إنستغرام)) لتحقيق دخل صافٍ بلغ حوالي 62 مليار دولار العام الماضي. المشكلة الحقيقية ليست زر الإعجاب، بل الحوافز المالية المصممة لإبقاء الناس قبالة شاشات هواتفهم الذكية بلا نهاية.
بالمثل، جاء تأطير مريب من سام ألتمان، من شركة ((أوبن إيه آي))، حديثاً عندما أعلن أن تطبيقه الجديد ((سورا)) (Sora) لإنشاء ومشاركة مقاطع فيديو الذكاء الاصطناعي، سيشعل ((انفجاراً إبداعياً هائلاً)).
لا تنتقدوا التقنية، بعبارة أخرى - ستكون رائعة للعالم. مع ذلك، إذا كان تشجيع الإبداع هو نية ألتمان الحقيقية، فلماذا تم بناء ((سورا)) على الحوافز المنحرفة نفسها التي تدعم تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي وتستثمر في التمرير اللا نهائي؟
كان لدى بيرنرز - لي وكليغ نوايا نبيلة لتعزيز التعاون والتواصل، لكن كلاهما قلل من شأن قوة نماذج أعمال وادي السيليكون والقوى النظامية التي يمكن أن تطلقها - للأفضل وللأسوأ.
هل كانت حوكمة ساذجة؟
بالنسبة لبيرنرز - لي، كانت الميكانيكا الصلبة هي كل ما يحتاجه الويب من حوكمة، وهو طموح لم ينجو أبداً بعدما لامس الواقع. اليوم، يدعو كليغ إلى مجالس إشراف وشفافية أكبر. لكن هذا لا يتناول الصميم. لم يدقق طرف ثالث في ((ميتا))، حتى تحت إشراف كليغ - وهو أمر لم يتناوله في كتابه.
في النهاية، كان المال هو البنية الأساسية التي تدعم الويب. من الإعلانات المستهدفة إلى التمرير اللا نهائي، أدت نماذج الإيرادات الأكثر نجاحاً إلى الاعتمادية وعززت الغضب.
يهدد عصر الذكاء الاصطناعي بإعادة النغمات نفسها. غالباً ما يتحدث قادة التقنية مثل ألتمان والرئيس التنفيذي لشركة ((جوجل ديب مايند)) ديميس هاسابيس بشكل غامض عن مستقبل مثالي يعالج فيه ما يسمى بالذكاء العام الاصطناعي السرطان، وينهي تغير المناخ ويحل جميع أنواع المشكلات البشرية المستعصية.
تبدو هذه الوعود أشبه بـ ((العصر الجديد للإبداع البشري)) الذي تحدث عنه بيرنرز - لي بحماس عندما كان يبني الويب لدى ((سيرن)). لكنها ستبدو جوفاء إذا مولت ((أوبن إيه آي)) و((جوجل)) خدمات الذكاء الاصطناعي لديهم عبر الإعلانات. يبدو ((تشات جي بي تي)) و((سورا)) بالتأكيد مهيئين للمضي في هذا الاتجاه.
لدى كليغ وبيرنرز - لي الكثير ليشاركوه. لكن الأمر يستحق الاستماع إلى الأصوات الأحدث والجذرية التي تعالج اختلال التوازن في القوة الاقتصادية للويب.
نموذج ((ويكيبيديا)) غير ربحي وناجح
يبني البعض نماذج أعمال بديلة على نطاق واسع: أظهر ((سبستاك)) و((باتيرون)) أن الدفع المباشر بين المبدعين والجمهور يمكن أن يدعم آلاف الكتاب دون الإعلانات؛ تظهر ((ويكيبيديا)) أن نماذج المنظمات غير الربحية لا تزال قادرة على تشغيل أحد أكثر المواقع زيارة في العالم.
يعيد آخرون، مثل الرئيسة التنفيذية لشركة ((بلو سكاي)) جاي غرابر تصور البنية الأساسية لوسائل التواصل الاجتماعي. أنشأت غرابر المنصة من الشركة المعروفة آنذاك باسم ((تويتر)) في عام 2021، ولديها الآن 3.5 ملايين زائر يومياً لتطبيقها على الهاتف المحمول، وفقاً لشركة ((سيميلار ويب)) وهي شركة معلومات تتبع السوق الرقمية.
بواجهة استخدام مشابهة لواجهة ((إكس)) (X)، بنيت ((بلو سكاي)) على شبكة لا مركزية تمنح المستخدمين مزيداً من التحكم في خوارزمياتهم وملفات التعريف المتعلقة بهم.
قالت غرابر: ((ينسى الشباب ما كان عليه الويب في بداياته. كان بإمكانك تخصيص ((ماي سبيس)) (MySpace) ومواقع الويب، ويمكنك إنشاء مدونة... الآن، يحدد عدد قليل من الشركات الكبيرة كل ما تراه على الإنترنت. وهذا ما يجعل البناء صعباً)).
حوافز الذكاء الاصطناعي
صوت جديد آخر هو إد نيوتن ريكس، وهو مدير تنفيذي سابق في شركة ((ستابيليتي إيه آي)) ومقرها لندن. استقال من الشركة الناشئة في أواخر عام 2023 عندما قرر المديرون أنه من ((الاستخدام العادل)) استخراج الموسيقى والفنون والأعمال المكتوبة المحمية بحقوق الطبع والنشر - دون موافقة - لتدريب نموذج توليد الصور لديها.
اليوم يدير ((فيرلي تريند))، وهي منظمة غير ربحية تصادق على شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي لممارسات بيانات التدريب الأكثر عدالة. لم تلجأ إليه أسماء كبيرة مثل ((أوبن إيه آي)) و((جوجل)) للحصول على ترخيص حتى الآن، ومعظم عملائه شركات تقنية أقل شهرة، لكن هذا ليس المقصد.
حقوق الملكية الفكريةقال نيوتن ريكس: ((الهدف هو إظهار أنه يمكن بناء نماذج الذكاء الاصطناعي دون استغلال عمل المبدعين، وأن هناك سوقاً تجارياً للترخيص)).
مباشرة بعد ظهوره في أولمبياد 2012، ضج هاتف بيرنرز - لي الذكي بالرسائل والتغريدات، وهي مؤشر على الحالة الإدمانية والصاخبة التي أصبحت تتسم بها شبكته. لقد تجاهلها، كما يقول في مذكراته، لأنني ((قد أدليت ببياني حول ما أريد أن تكون عليه الشبكة، وقد رأى ذلك الجميع)). ومع ذلك، فإن الحديث وحده لا يصنع تقنية أفضل، لكنه يصنع سياسيين جيدين مثل كليغ.
قال تشارلي مونجر، نائب رئيس شركة ((بيركشاير هاثاواي)) الراحل: ((أرني الحافز وسأريك النتيجة)). هناك خطر من أن ثورة الذكاء الاصطناعي اليوم ستنتهي بالحوافز القديمة نفسها والنتائج القديمة ذاتها. وبما أن الذكاء الاصطناعي يلتزم بأنماط الاستخراج نفسها التي تتبعها شركات الإنترنت العملاقة، فلا يمكننا أن نتجاهل ما سيعنيه ذلك لمستقبلنا.
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
Comments
No comment