الانتقال من عطاء محدود لرحابة الأوسع - جريدة الوطن السعودية

(MENAFN- Al Watan) عندما يتقاعد الإنسان... ينتقل من العطاء المحدود لجهة عمله إلى رحابة العطاء الواسع.
التقاعد ليس نهاية مسار، بل بداية مرحلة جديدة تتكشف فيها فرصة نادرة للإنسان كي يعيد اكتشاف ذاته ومعنى وجوده. فسنوات العمل الطويلة، مهما كانت ممتعة أو مثقلة بالمسؤوليات، تظل محكومة بإطار مؤسسي محدد: ساعات دوام، مهمة وظيفية، لوائح، إنجازات تقاس بالأرقام، وترقيات ترتبط بمعايير واضحة. في المقابل، حين ينسحب الإنسان من هذه الدائرة المنظمة، يجد أمامه فضاءً واسعًا لم يكن يراه بوضوح من قبل... فضاء يمكن أن يتيح له عطاءً أعمق وأجمل وأكثر تأثيرًا.
لقد اعتدنا أن نربط العطاء بالوظيفة، وأن نقيس القيمة بما نقدمه من جهد داخل جهة العمل. لكن الحقيقة أن العطاء الإنساني لا يُختزل في بطاقة موظف، ولا يتوقف عند نقطة التقاعد، بل ربما يبدأ حينها بصورة أنقى وأشمل.
بين عطايا الوظيفة وعطاء الحياة، سنوات العمل تمنح الإنسان خبرة، وعلاقات، وقدرة على حل المشكلات، وفهمًا عميقًا للناس، والجديد أن هذه المكتسبات لا تنتهي مع آخر يوم في العمل. ما يتغير فقط هو شكل استخدامها، وليس قدرتها ولا قيمتها.
في الوظيفة: يكون عطاؤك مرتبطًا بمهمة ومسؤولية محددة.
في الحياة بعد التقاعد: يصبح عطاؤك مرتبطًا بالإنسان نفسه، وبالقيمة التي تتركها في قلوب الآخرين.
وفي هذا التحول تكمن الحكمة؛ فالعطاء بعد التقاعد لا يعود محكومًا بوقت ولا بوظيفة ولا بتعليمات جهة معينة، بل يصبح حرًا... خالصًا... نابعًا من رغبة داخلية صادقة.
تقاعدك لا يعني أنك انتهيت... بل أنك تحررت
الإنسان في سنوات عمله يبذل الكثير، لكنه في الغالب يكون مقيدًا باعتبارات الوظيفة. من النادر أن يجد وقتًا كافيًا لهواياته، لعائلته، لصحته، وللأعمال الإنسانية التي يحبها.
وحين يتقاعد، كأنه يُمنح هدية عظيمة، مساحة واسعة من الوقت يمكن أن يضع فيها بصمته الحقيقية. بل قد يكتشف المتقاعد أن أجمل ما يملكه اليوم هو ((حرية الاختيار)) التي لم تكن متاحة له طوال سنوات عمله. مساحات العطاء بعد التقاعد تشمل:
أولا: العطاء الأسري، قد يكون أجمل عطاء يقدمه الإنسان هو وجوده بين أسرته، المتقاعد يصبح أقرب لأبنائه، لحفدته، وكل دقيقة يقضيها معهم تُعد استثمارًا في الحب، وتربية، وصنع ذكريات لا تُقدّر بثمن.
ثانيا: العطاء المجتمعي والتطوعي، التطوع ليس مجرد نشاط، بل معنى للحياة، الخبرة التي حملها الإنسان في عمله يمكن أن تتحول إلى: إرشاد الشباب في بداياتهم، دعم المبادرات الاجتماعية، تحسين بيئة الحي أو المدينة، خدمة المحتاجين بصور مباشرة أو غير مباشرة، هذا هو العطاء الذي يُبقي أثره حيًا حتى بعد سنوات.
ثالثا: العطاء العلمي والمعرفي، الخبرات المتراكمة لا ينبغي أن تُدفن مع التقاعد، المتقاعد يستطيع أن يكتب، أن يعلّم، أن يستشار، أن ينقل الدروس التي تعلّمها للجيل القادم، إنها مرحلة تتحول فيها المعرفة من ((سر مهني)) إلى ((خبرة حياة)).
رابعا: العطاء للنفس، كثيرون ينسون أن أنفسهم تستحق نصيبًا من العطاء وأنا أولهم، بعد سنوات الانشغال، يأتي وقت الاهتمام بالصحة، بالسفر، بالتعلم، بالهوايات، وبالراحة الذهنية.
هذا ليس ترفًا... بل هو أساس لاستمرار قدرة الإنسان على العطاء للآخرين، التقاعد الحقيقي ليس خروجًا من العمل... بل دخولًا إلى الحياة.
الذين ينجحون في مرحلة التقاعد هم الذين يدركون أن: قيمتهم ليست مرتبطة بالوظيفة، أدوارهم لا تنتهي بخروجهم من مكتبهم الأخير، المجتمع بحاجة لخبراتهم أكثر من أي وقت، العطاء الحقيقي يبدأ حين يصبح بلا مقابل وبلا شروط.
إنها المرحلة التي يتحول فيها الإنسان من موظف يؤدي واجبًا... إلى إنسان يصنع أثرًا.
ختامًا...
التقاعد ليس توقفًا، بل انتقال.
ليس نهاية العطاء... بل اتساعه.
وليس فقدًا للدور... بل اكتشافا لدور أعمق وأشمل.
وعندما يدرك المتقاعد أنه انتقل من عطايا المحدود لجهة عمله إلى العطاء الواسع للحياة والإنسان، يكتشف أن أجمل أيامه لم يمضِ وقتها بعد... بل بدأت الآن.

MENAFN19112025000089011017ID1110369073

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث