رفيق طريق لا بديل حياة.. فلسفة "الذكاء الاصطناعي"

(MENAFN- Al-Bayan) كيف نستخدم آلة تصغي إلينا من دون أن نسلم لها دفة قلوبنا؟ كيف نسمح للتكنولوجيا أن تمد جسوراً نحو الناس لا جدران بينهم؟ ليست هذه أسئلة مقلقة بقدر ما هي دعوة إلى قراءة مختلفة: أن نعامل الذكاء الاصطناعي كما نعامل الكهرباء والماء والطرق، بنية تحتية لحياة أذكى، لا بديلاً عن الحياة نفسها.

في الجهة الأولى من الحكاية يطل الواقع بملامحه الصريحة، إذ رصدت الصحافة الأوروبية قصة أب بلجيكي بدأ يبحث عن معنى في حوارات طويلة مع روبوت محادثة، كان قلقه على مستقبل عائلته مشروعاً، وكانت الشاشة مستعدة دائماً للرد، شيئاً فشيئاً تمدد الحضور الرقمي في يومه، تضخمت هواجسه بدل أن تهدأ، وتداخل الوهم بالواقع إلى أن انتهت القصة بقرار مأسوي يذكر بقيمة الحدود عندما تبهت الفواصل بين الحقيقي والافتراضي، وعلى مقربة منا تتردد حكاية فتاة من الشرق الأوسط أطالت البقاء أمام محادثة ذكية حتى ذبلت أطراف علاقتها بالعائلة والأصدقاء، عزلة صامتة لم تبدأ صاخبة ولم تنته صاخبة، لكنها تركت أثرها البارد، ليست هذه الوقائع لتخويف القارئ، بل لتأكيد الحقيقة البسيطة: قيمة الأداة تقاس بحكمة من يحسن تشغيلها.

وهنا تبرز الفكرة التي تمنح المقال كله عموده الفقري: الوعي ليس إنذاراً يدوياً في الليل، بل إضاءة هادئة تسبق الخطوات، ما الذي يحدث لو تعاملنا مع ذكائنا الاصطناعي بهذه الروح؟ حين نحدد زمناً واضحاً لا يلتهم ساعاتنا، ونعقب كل جلسة رقمية بلمسة بشرية حقيقية، ونحافظ يومياً على فعل صغير يعيد إلينا حرارة الواقع ((رياضة ممتعة، مجلس عائلي، زيارة قصيرة لصديق)) نكتشف أن الأداة تعود إلى مكانها الطبيعي: مساعداً لا مسيراً، رفيق طريق لا دليل مصير.

المجتمعات التي تدير التكنولوجيا بهذا الاتزان تكسب أكثر مما تخاف، في دولة الإمارات مثلاً، تحول الوعي إلى منظومة تمكين: رؤية تستهدف جودة الحياة لا المظاهر، أطر أخلاقية للاستخدام المسؤول، ضوابط لحماية الخصوصية والبيانات، وأدوات تقييم تعين الجهات على أن تبني خدمات أسرع وأدق وأكثر شفافية، النتيجة ليست ((تكنولوجيا بلا أخطاء)) لأن ذلك وهم، بل تكنولوجيا ببوصلات: تعرف إلى أين تمضي، وبأي سرعة، ومع من.

القصة الإيجابية ليست في إخفاء المخاطر، بل في إخضاعها لمعادلة منضبطة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مدرساً صبوراً يعيد شرح الدرس عشر مرات بلا ملل، ومعيناً لذوي الهمم يفتح أبواباً كانت موصدة، ومخططاً دؤوباً ينظم الأوقات ويحسن القرار، لكنه لا يكون طبيباً للروح ولا صديقاً بديهياً يحس بالسكوت قبل الكلام، إن طلبنا منه هذا الدور أرهقناه وأرهقنا أنفسنا، ما يضيء الطريق حقاً هو ذلك التحالف الهادئ بين إنسان يعرف ماذا يريد وأداة تعرف كيف تنجز.

ولأن المقال تجربة قراءة لا محاضرة، دعنا نقترح عادة واحدة ونترك ما تبقى لذكائك الشخصي: قاعدة 15 - 5 - 1، خمسة عشر دقيقة حداً لجلسة المحادثة الذكية، يعقبها خمس دقائق تواصل بشري مباشر ((اتصال، رسالة صوتية، نظرة عين لعين))، ومرة كل يوم نشاط إنساني صريح يعيد ترتيب الداخل، ليست وصفة صلبة بقدر ما هي إيماءة نحو التوازن، فإذا وجدت نفسك تخفي علاقتك الرقمية عن أقرب الناس، أو تفضل الآلة على الجلسات الحية مرة بعد مرة، أو يوجعك انقطاع الخدمة كأن صديقاً هجرك، فتلك إشارات لا تستدعي الذعر، تستدعي أن تهدئ السرعة وتعود مرة أخرى لإمساك المقود.

قد تقول: ولماذا كل هذا الحرص إذا كان الهدف هو المنفعة؟ لأن المنفعة الحقيقية لا تنمو في التربة التي تهمل فيها الحدود، نحن لا نضع حزام الأمان لأن الطريق خطير دائماً، بل لأننا نريد أن نصل دائماً، وهكذا الذكاء الاصطناعي: كلما وضعت له حداً أصبح أكثر فائدة، وكلما وضعت له غاية إنسانية واضحة صار أقرب إلى أن يكون سبباً من أسباب جودة الحياة لا على هامشها.

تجربة دولة الإمارات تذكرنا أن الإطار العام يصنع فارقاً ووعياً تحول إلى منظومة تمكين، وضعت دولة الإمارات رؤية واضحة للاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، إذ ربطت الابتكار بخدمة الإنسان، وطورت أطراً إرشادية وضوابط لحماية البيانات والخصوصية وأدوات تقييم تساعد الجهات في تحسين الجودة والأمان، النتيجة تطور مستمر واستفادة كبيرة للحكومات والمجتمع معاً: خدمات أذكى وأسرع، قرارات أدق، وتجارب رقمية تحافظ على الإنسانية وتحسن جودة الحياة.

أما في الحياة اليومية، الحكايات الصغيرة تصنع فارقاً أيضاً: أم تستبدل نصف ساعة من التصفح بجولة مشي مع ابنتها، موظف يختار أن يوجه النظام الذكي لمهام ترفع عنه الرتابة بدل أن تسرق منه لحظات الراحة، وطالب يجرب أن يجعل من الذكاء الاصطناعي زميل دراسة لا بيتاً يلوذ به من الدراسة.

ليواكب صدقنا الذاتي حماسنا للتكنولوجيا، فليست المشكلة في أننا نستخدم تقنية تفوق ما لم يعرفه بشر قبلنا، بل في أن نطلب منها أن تكون ما لسنا مستعدين أن نكونه مع بعضنا، ولعل أجمل ما في هذه اللحظة التاريخية أنها تمنحنا حرية الاختيار: أن نصنع من الذكاء الاصطناعي مرآة تحسن أداءنا أو قناعاً يعفينا من مواجهة أنفسنا، الاختيار الأول يحتاج إلى شجاعة أقل مما نظن: سؤال قبل الاستخدام، حد بعد الاستخدام، وباب إلى الواقع يفتح كلما أغلقت شاشة. هذه هي ((بصمة الوعي)) كما أتخيلها: تنقيب شجاع بين السطور، وثقة بأن الإيجابية خطة عمل لا قناع، وأن التكنولوجيا ستمنح الكثير حين نمسكها بيد دافئة، والإنسان يزدهر حين يعلم أن أبهى ما فيه يزدهر خارج الشاشة، ثم يعود إليها بصفاء أوسع وقلب أقوى للحياة.

MENAFN17112025000110011019ID1110353537

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث