ياسر عرفات... الفكرة التي لم تُغتَل بقلم : الإعلامي والكاتب فراس الطيراوي
في مثل هذا اليوم من تشرين الثاني، لا تمرّ الذكرى كحدثٍ عابرٍ في تقويمٍ رسمي، بل كنبضٍ يتجدد في شرايين فلسطين كل عام.
تخرج صورته من بين دخان المعارك ودموع الأمهات، لا كوجهٍ غاب، بل كروحٍ ما زالت تسكن الذاكرة وتُشعل الوجدان.
إنه ياسر عرفات" أبو عمار" الاسم الذي لم يُكتب بالحبر بل بالدم، ولم يُنقش على جدارٍ بل في ضمير أمةٍ كاملة.
هو الرجل الذي لم تُطفئه السنوات، لأن حضوره تجاوز حدود الجسد إلى رحاب الفكرة، ولأن روحه تحوّلت إلى مرآةٍ تعكس هوية فلسطين في أنقى صورها: الجرح والمقاومة، اللجوء والإصرار، الحلم والعناد.
لقد كان أبو عمار تجسيدًا حيًّا لفلسطين نفسها وجهًا يحمل تعب الأرض، وعينين تشبهان شمسها عند الغروب حين تستعدّ للعودة.
لم يكن قائدًا سياسيًا فحسب، بل أسطورة وطنٍ مجبولٍ بالوجع والأمل، رجلًا عاش كل أدوار القضية: اللاجئ، والثائر، والمفاوض، والمحاصر، ثم الشهيد.
⸻
من رماد النكبة إلى وهج الثورة
وُلد ياسر عرفات من رحم المخيّم، من خيامٍ مهترئةٍ نازفةٍ بالمطر، ومن وجع الأمهات اللواتي يغزلن الأمل بخيوط الصبر.
لم يكن يملك جيشًا ولا خزائن ولا حلفاء، لكنه امتلك ما هو أعظم: الإيمان بعدالة القضية، والإصرار على أن الفلسطيني، مهما تهشّمت أوطانه، لا يُهزم ما دام متشبثًا بذاكرته.
منذ أن حمل حقيبته الصغيرة وخرج في طريق الثورة، أدرك أن الرحلة طويلة ووعرة، وأن قدره أن يكون“اللاجئ الأكبر” الذي لا يملك سوى وطنٍ يسكن الحلم.
في عمان وبيروت وتونس وغزة، كان الصوت والظل والراية.
كان يقاتل بالحلم كما يقاتل بالرصاصة، بالكلمة كما بالسلاح، وكان يؤمن أن المعركة الحقيقية هي معركة الوعي: أن يعرف الفلسطيني من هو، ومن أين أتى، ولماذا يجب أن يبقى
لقد حوّل اللجوء إلى مدرسةٍ للكرامة، والمنفى إلى وعدٍ بالعودة، وجعل من الخيمة منبرًا ومن الكوفية علمًا.
من بين الركام صنع ملامح دولة، ومن الحصار كتب نشيدًا للصمود، ومن جراح الوطن نسج حكايةً للخلود.
الزعيم الإنسان
لم يكن أبو عمار زعيمًا خلف الأسوار أو بين الحرس.
كان واحدًا من الناس، يأكل معهم خبز الحصار ويشرب معهم ماء الشظف.
كان يبتسم في زمنٍ يعجز فيه الآخرون عن الحلم، ويواسي الأمهات كما يواسي وطنًا بأكمله.
عرف الأطفال بأسمائهم، حفظ وجوه المقاتلين، وتفقّد الأسرى كأبٍ لا ينسى أبناءه.
ذلك القرب الإنساني هو ما جعل صورته تتجذر في الوجدان الشعبي، لا كرمزٍ بعيد، بل كوجهٍ مألوفٍ من لحمهم ودمهم.
كان يحب الحياة بقدر ما يدافع عنها، لكنه لم يساوم على الكرامة.
وحين حاصره الاحتلال في المقاطعة برام الله، لم يهرب كما فعل آخرون، بل اختار البقاء وحيدًا، محاصرًا، لكنه مرفوع الرأس.
رفض الرصاص والخيانة والجوع، واختار أن يموت كما عاش: شامخًا.
قالها بصلابةٍ نادرةٍ في وجه العالم:
“يريدونني أسيرًا أو طريدًا أو قتيلًا، وأنا أقول لهم: شهيدًا، شهيدًا، شهيدًا.”
كانت تلك العبارة قسمًا ووصيةً وعقيدة، لا شعارًا عابرًا.
ومنذ أن لفظها، تحوّلت إلى نشيدٍ خالدٍ يردده كل فلسطينيٍّ يقف في وجه الطغيان.
الكوفية... وشاح الذاكرة وراية الهوية
الكوفية التي كانت تزيّن جبينه لم تكن زينةً ولا عادةً، بل راية وطنٍ بأكمله.
في نقوشها كانت القرى المهدّمة، وأغاني الحصاد، ودموع الأمهات، وأحلام العودة.
تحوّلت إلى علمٍ غير رسميّ، إلى رمزٍ عابرٍ للحدود، ترفرف في غزة ودمشق، في بيروت وعمّان، في الجامعات والمخيمات والمظاهرات حول العالم.
في الكوفية اختصر عرفات فلسفته كلها: أن الهوية لا تموت، وأن من يحملها لا يُهزم.
حتى بعد رحيله، بقيت الكوفية تغطي كتف كل مقاومٍ وتزيّن كتف كل عاشقٍ لفلسطين.
صارت وشاح الذاكرة الجمعية، وعنوانًا لفكرةٍ لا تُهزم بالرصاص ولا بالحصار.
في وجه العاصفة
في زمن الانقسام والتعب، حين ضاعت البوصلة وتاهت الشعارات، يعود اسم ياسر عرفات كصوتٍ في البرية، كنداءٍ يعيد ترتيب الذاكرة الوطنية.
كان يرى أن الثورة ليست بندقيةً فقط، بل حياةٌ كاملة تُبنى بالوعي والعمل والصبر.
قالها بوضوحٍ خالدٍ:
“الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل معول فلاح، وكتاب طالب، وإبرة امرأة تخيط جرح الوطن.”
هكذا فهم النضال: مشروع حياة، لا مشروع موت.
كان يرى في كل فلاحٍ يزرع زيتونة، وكل أمٍّ تُعدّ القهوة لابنها الأسير، وكل طفلٍ يحمل حقيبته إلى المدرسة في المخيم جنديًا في معركة الكرامة.
لم تكن ثورته بندقيةً فقط، بل كانت معنى الوجود الفلسطيني كله.
وحين تبدّدت الشعارات وتنازعت الفصائل، بقي عرفات الثابت الوحيد في المعادلة: الرمز الذي يجمع المختلفين على كلمةٍ واحدة: فلسطين أولًا وأبدًا.
عرفات... القصيدة التي لم تُختم
ربما لم تتحقق الدولة التي حلم بها، لكن ما أنجزه يفوق الخرائط والسياسة.
لقد صنع هويةً وطنيةً متماسكةً لشعبٍ حاول العالم أن يذيبه في المنافي.
حوّل الوجع إلى وعي، واليُتم إلى انتماء، والمنفى إلى خريطةٍ بديلةٍ للعودة.
جعل من الكلمة رصاصة، ومن الحلم طريقًا لا ينتهي.
كان يعرف أن الاحتلال قد يقتل الجسد، لكنه لا يستطيع أن يقتل الفكرة.
وحين اغتيل مسمومًا، لم يمت، بل عاد إلى الحياة في قلوب الملايين الذين رأوا فيه وعدًا لم يكتمل، لا ذكرى انطفأت
تحوّل إلى ضميرٍ جمعيٍّ للأمة، وإلى مرآةٍ يرى فيها الفلسطيني نفسه مهما تبدّلت الأزمنة.
الخلود في ذاكرة الأرض
في كل طفلٍ يحمل حقيبته إلى المدرسة في غزة أو جنين، ظلّ من عرفات.
في كل امرأةٍ تُعدّ القهوة على أنقاض بيتٍ مهدوم، دفءٌ من ابتسامته
وفي كل شهيدٍ يسقط، يتردد صوته في الأفق:
“إلى القدس رايحين، شهداء بالملايين.”
لقد أصبح أبو عمار حالةً وطنيةً مستمرة، تتجاوز السياسة إلى الوجدان، والموقف إلى العقيدة.
هو المعنى الذي يربط بين الأجيال على طريقٍ واحدة: طريق الكرامة والحرية والخلود
ليس ذكرى فحسب، بل نبضٌ متجددٌ في ذاكرة الأرض، وجرحٌ يفيض بالعزة بدل الألم
سلامٌ عليك يا أبا عمار،
سلامٌ على القائد الذي جعل من الحلم وطنًا، ومن الكلمة راية، ومن الصمود دينًا للأحرار.
ستبقى كوفيتك رايةً لا تُنكّس،
وصوتك وعدًا لا يخون
وذكراك جسرًا يعبر عليه القادمون إلى فجرٍ لا بد أن يولد...
ففلسطين لا تُنسى،
ومن أحبها لا يموت.
الكاتب فراس الطيراوي ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.
شيكاغو
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
خلال 56 يوماً فقط.. مصل سحري يعالج تساقط الشعر ويقضي على الفراغات...
خطر خفي في كل منزل... هذه الأجهزة قد تتحول إلى قنبلة...
الإعجاز الخفي... كيف تحمي الأرجل الطويلة قلب الزرافة؟...
كيف صنعت مدرسة كيمياء ثروة قدرها 20 مليار دولار؟...
الذهب يرتـفع عالميا.. لهذا السبب!...
ياسر عرفات... الفكرة التي لم تُغتَل بقلم : الإعلامي والكاتب فراس الطي...