"الأكثر مبيعاً".. هل يكيَّل الكتاب بمبادئ السوق؟
ليس وارداً إنكار أن الطباعة عملية صناعة متكاملة، من أهدافها الربح كما من أهدافها الثقافة، لكن إلى أي مدى يمكن لاعتبارات الربح ((الرأسمالية)) أن تطغى على القيمة الفكرية والإبداعية لهذا العمل أو ذاك.
يرى الدكتور محمد حمدان بن جرش السويدي، المستشار الثقافي لجمعية الإمارات للإبداع، أن التحولات الرقمية المتسارعة أخضعت ذائقة القارئ لسطوة الخوارزميات.. وإزاء هذا الواقع يمكننا باطمئنان أن نقول إن قوائم ((الأكثر مبيعاً)) لم تعد مؤشراً دقيقاً على جودة الكتب أو نجاح مؤلفيها، بقدر كونها انعكاسا لديناميات السوق وآليات الترويج الحديثة.
ويقول: ((إن ما كان في الماضي ثمرة تفاعل طبيعي بين الكاتب والقارئ، أصبح اليوم نتاج منظومة رقمية خفية تعمل في خلفية الشاشات، تحركها الإعلانات الممولة والخوارزميات التي تقترح وتقصي وفق منطق العرض والطلب أكثر مما تخدم المعرفة أو القيمة الأدبية.
ويضيف الدكتور بن جرش أن الظاهرة التي تبدو في ظاهرها دليلاً على ازدهار القراءة، تكشف في عمقها هشاشة العلاقة بين القارئ والنص، بعدما تحوّلت القراءة إلى ((موضة رقمية)) تشعلها منشورات ((إنستغرام)) وتغريدات المؤثرين، ما يجعل بعض الكتب تُباع لأنها متداولة لا لأنها تُقرأ، وتُقرأ لأنها تثير الفضول لا لأنها تُضيف للوعي)).
ويطرح سؤالاً يقول بأهميته اليوم، وهو: من يصنع الأكثر مبيعاً؟الكاتب بموهبته، أم القارئ بخياراته، أم المسوق الذي يعيد هندسة الرغبة من خلال الصورة والعنوان والتوقيت؟ معتبراً أن الجميع باتوا شركاء في هذه اللعبة الجديدة: الكاتب الباحث عن الانتشار، القارئ الباحث عن الانتماء، والمنصة الباحثة عن الربح.
ويحذر من أن تتحول الخوارزميات إلى ((الناقد الأعلى)) الذي يقرر من يُقرأ ومن يُهمَّش، ما يضيق مساحة المغامرة الأدبية لحساب ما يوافق المزاج السائد، ويحول الكاتب من مبدع حر إلى منتج يخضع لذوق معلب ومؤقت وبلا روح.
ويؤكد أن الاعتماد المفرط على قوائم ((الأكثر مبيعاً)) يهدد جوهر العملية الإبداعية، ويجعل النشر فعلاً تجارياً أكثر منه ثقافياً أو فكرياً، داعياً إلى إعادة الاعتبار للقارئ الواعي والذائقة الحرة التي تختار خارج التريند لا من داخله.
ويختتم قائلاً: ((قد تكون الخوارزميات أذكى، لكنها ليست أصدق.. وحده القارئ الذي يقرأ لأن النص ناداه، لا لأن القائمة دعته، هو من يمنح الأدب خلوده ويعيد للقراءة معناها الإنساني الإثرائي الأعمق)).
تفاعل معقدهمام المطارنة، منسق النشر في دار روائع الكتب للنشر والتوزيع بالدمام في المملكة العربية السعودية، يؤكد أن صناعة قوائم الأكثر مبيعاً ليست مسؤولية طرف واحد فقط، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين الكاتب والقارئ والمسوق، مع تأثير متزايد للخوارزميات التي تحدد الاتجاهات وتوجه المبيعات بشكل ملحوظ.
وقال إن الكاتب الذي يجمع بين الموهبة والقدرة على التسويق الذاتي يصبح الأكثر تأثيراً وانتشاراً، وهناك أمثلة عديدة على مؤلفين نجحوا بفضل الجمع بين الإبداع والترويج الذكي لأعمالهم.
وأضاف المطارنة أن الظاهرة، وإن بدت في ظاهرها دليلاً على ازدهار القراءة، فإنها في عمقها تكشف شبكة معقدة من العلاقات بين التوزيع والإعلان والمنصات الرقمية، إضافة إلى ما يعرف بموضة القراءة التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضح أن هذا الواقع يعكس مدى تأثير العوامل التكنولوجية والتسويقية على توجهات القراء، ويبرز الحاجة إلى تعزيز الوعي النقدي والثقافي لدى الجمهور لتمييز الظواهر العابرة عن القراءة المتعمقة والمستنيرة.
وأكد أن قوائم الأكثر مبيعاً لا تعكس بالضرورة جودة المحتوى أو الذائقة الرفيعة، بقدر ما تعكس النجاح التجاري وتأثير آليات السوق، مشيراً إلى أنه على الرغم من ذلك، يمكن النظر إليها كمؤشر جزئي على اهتمام شريحة واسعة من القراء.
ويحذر المطارنة من الاعتماد المفرط على هذه القوائم في توجيه قرارات النشر، موضحاً أن هذا التوجه قد يدفع الناشرين إلى التركيز على الأعمال المضمونة تجارياً، على حساب الابتكار والتنوع الفني.
وشدد على ضرورة إيجاد توازن بين المبيعات المحتملة والجودة الأدبية، لضمان استدامة صناعة النشر وتطورها الإبداعي بعيداً عن النزعة الاستهلاكية والسطحية.
عوامل متشابكةمن جهته يقول محمد عبدالمنعم، من دار سما للنشر والتوزيع بمصر، إن ((الأكثر مبيعاً)) هو نتاج عوامل متشابكة، تشمل التسويق الجيد للكتاب، ثم المحتوى الجيد، ومهما كانت عملية التسويق متميزة لن تروج سلعة ثقافية فقيرة الجودة.
ويضيف أن معايير تحديد القوائم تختلف من دار نشر إلى أخرى، فبعضها يعتمد على أرقام المبيعات المباشرة داخل المعرض أو على الإنترنت، بينما يكتفي آخرون بعدد النسخ الموزعة على المكتبات أو ما تحقق من مبيعات في الأيام الأولى للعرض.
ويقول ناجي مرزوق من دار صامد للنشر والتوزيع تونس إن القائمة لا تخضع دائماً لمعايير دقيقة، ففي بعض الأحيان تكون وسيلة لجذب الجمهور أو الإشارة إلى كتاب لقي تفاعلاً على وسائل التواصل، حتى إن لم تتجاوز مبيعاته مئات النسخ.
ويضيف أن غياب جهة مرجعية موحدة لتوثيق الأرقام يجعل من عبارة ((الأكثر مبيعاً)) مصطلحاً مرناً يمكن توظيفه تسويقياً أكثر منه إحصائياً، مشيراً إلى أن طبيعة المحتوى في العادة هي التي تحدد وتتحكم، ولكن أحياناً نجد استخدامها فضفاضاً.
ويشير غياث علي، من دار العصماء للنشر بسوريا، إلى أن التسويق أصبح العنصر الحاسم، فالكتاب الذي يحظى بمؤثر يروج له عبر مقطع مصور قد يحقق مبيعات تفوق رواية نالت جوائز أدبية.
ويرى قاسم التراس، من دار نشر الرواد سوريا، إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم الفاعل الأبرز والموجه الأساسي في مختلف مجالات الحياة، وليس في القراءة وحدها، إذ باتت تتحكم في ذائقة المجتمع وتوجه اهتماماته.
ويشير إلى أن الناشرين يعتمدون في توزيعهم على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، بينما يجد الكاتب نفسه مضطراً للتفاعل بحرفية عالية عبر المنصات الرقمية لبناء جمهوره وتحقيق الحضور المؤثر فيها.
ويضيف أن المشهد تغير عما كان عليه في السابق، حين كان القراء يبحثون عن كتب أو مؤلفين بعينهم لما تحمله أعمالهم من قيمة علمية أو فكرية أو اجتماعية، أما اليوم فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي التي تدير دفة الحياة الثقافية إلى حد كبير.
ويعبّر عن أسفه لأن صناعة الكتاب لم تواكب تطور حضورها على هذه المنصات بالوتيرة نفسها التي شهدتها باقي الصناعات، مشيراً إلى أن قوائم ((الأكثر مبيعاً)) باتت تؤثر في القارئ والناشر على حد سواء، رغم أن ((الأكثر مبيعاً)) لا يعني بالضرورة ((الأصلح)) أو ((الأنفع)) للمجتمع.
ويؤكد في ختام حديثه أن الأمر يتطلب إدارة شاملة ومتكاملة لمنصات التواصل الاجتماعي، تشارك فيها الحكومات والمكتبات الوطنية والمراكز الثقافية، بهدف توجيه هذا التأثير نحو ما يخدم الثقافة والوعي العام.
الدعاية تسبق المحتوىفي زمن المؤثرين وحملات الإعلانات المدفوعة لم يعد نجاح الكتاب مرهوناً بجودته الأدبية وحدها، كما يقول محمد الوسيلة لدى زيارته المعرض.
ويقول: ((أحياناً أختار كتاباً بناء على تصنيفه فإذا به أقل من أن يقتنى، وأحياناً أجده جديراً بالقراءة مرات، لكني على كل حال لا أهتم كثيراً بتلك القوائم)).
ويرى أيمن علي، ((زائر للمعرض))، أن الكتاب الجيد يفرض نفسه بمرور الوقت، مهما كان بعيداً عن قوائم المبيعات، مضيفاً أن الشهرة لا تصنع القيمة.
ويؤكد أن المشهد بحاجة إلى تصنيف آخر يوازي الأكثر مبيعاً بعنوان الأكثر تأثيراً، لأن بعض الكتب تغيّر الوعي ولا تُقاس قيمتها بالأرقام.
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
المنتخب الهندي يحافظ على صدارة مونديال الرماية البارالمبية بالعين...
نيكاي يتراجع عن أعلى مستوى له على الإطلاق...