الحضرة والوجدان الجمعي

(MENAFN- Al-Bayan) كل مجتمع، عبر التاريخ، يملك ذاكرة خاصة به، ولم يكتشف العلماء والفلاسفة بعد تلك المعادلة التي تبني فيها المجتمعات والحضارات ذاكرتها الجمعية، فالذاكرة ليست فقط في الكتب، أو بعض الصور أو الرسوم التي يتم اكتشافها أو التقاطها، ولا أيضاً في الحكايات الشفهية المتوارثة التي يمكن حمايتها والتمسك بها، بل إن هناك، حسب وجهة نظري، تفاصيل صغيرة جداً تحيا في ((الوجدان الجمعي)) للمجتمعات، وقد تتمثل بعمق في جميع العادات والممارسات والسنع والأغاني والأهازيج، وبعض الخصوصيات المختبئة أثناء ممارسة الحرف الشعبية، أو أثناء المناسبات بالصورة التراثية التقليدية، بمعنى أنها موجودة فعلاً في كافة أشكال التراث المادي وغير المادي، كروح تتحرك فيها.

لفت انتباهي مقال للأستاذ ((خليفة حمد الرميثي)) حول ((حماية لذاكرة مجتمع))، ورحت أستحضر صورة البحر في وعي الإنسان الإماراتي، وهو بالنسبة لي، مدرسة الصبر الأولى، ومختبر الحيلة والذكاء والتوازن بين الإنسان والطبيعة، وأرى أنه من بين كل ما أورثنا البحر من فنون الصيد وأسرار العيش، تبقى ((الحضرة)) واحدة من أصفى صور هذا الارتباط، وأكثرها دلالة على فهم الإنسان العميق لإيقاع الماء ولإرادة الحياة فيه.

الحضرة، كما نعرف، هي أداة صيد، لكنها في الحقيقة تمثل ما يشبه النص الشعبي المفتوح على الزمن.

وعند التدقيق فيها، نجد أن فيها الحيلة، وفيها الحساب الدقيق لحركة المد والجزر، وفيها حس شعري يلتقط نَفَس البحر، ويحوّله إلى رزقٍ وطمأنينة، لذلك، فإن من يبني الحضرة لا يبنيها اعتباطاً، بل يختار موقعها بدقّةٍ لا تختلف عن دقة المهندس أو الفنان، لأن كل زاويةٍ فيها تحدد شكل التيار واتجاه السمك ومسار الصيد، فإن الحضرة، تمثل عقل الإنسان البحري، قبل أن تمثل يده، إنها مرآة وعيه البيئي، قبل أن تكون وسيلة عيشه اليومية.

اليوم، حين نتأمل مشهد السواحل، قد نلاحظ أن الحضرة غابت عن العين، لكنها بقيت في الذاكرة، كصوت خافت من الماضي، ينادي الأجيال الجديدة أن تعود إلى معنى التوازن، ففي رأيي، هي رمز من رموز الاستدامة الثقافية، التي تُعبّر عن فلسفة العيش المتناغم مع الطبيعة.

فالحضرة لا تؤذي البحر، بل تتناغم معه، لأنها ممارسة تعتمد على حركة المد والجزر، أي على الوقت، وبالتالي، على الصبر، فكيف فعلها أجدادنا؟ كيف كانت لديهم القدرة على معرفة مزاج الماء واتجاهاته؟! أليست تلك أسطورة يجب أن تعيد لنا بناء ذاكرتنا الجمعية بصورة أكثر عمقاً وسطوعاً؟.

بالطبع، فإن كل مجتمعٍ معرض أن يفقد جزءاً من ذاكرته حين يندفع في سباق الحداثة دون وعيٍ بمصدره، وحين نرى الصيد بالحضرة يختفي من سواحلنا، فإننا قد نفقد ((لغة)) كاملة من لغاتنا الثقافية العميقة، لذلك، فإن حماية الحضرة هو مشروع وطني للوعي والهوية، لأن من يحمي ذاكرته يحمي توازنه الداخلي، ويمنح الأجيال القادمة جذوراً يستندون إليها في عالم سريع التغيّر.

وجهة نظري أن دولة الإمارات تمتلك اليوم بنيةً متقدمةً للسياحة الثقافية والبيئية، يمكن أن تحتضن هذا النوع من الممارسات التراثية، وكما قال الأستاذ ((الرميثي))، فإنه، وكما نجحت هيئة البيئة في أبوظبي في صياغة تجربة مدهشة للحفاظ على سلاحف السعديات، بالتعاون مع دائرة السياحة، يمكن أن تكون ((الحضرة)) مشروعاً مشابهاً، يجمع بين حماية البيئة والترويج الثقافي، ويجعل من تجربة الصيد التقليدي فعلاً سياحياً راقياً، يقدم للزائر تجربة غنية بالمعرفة والتفاعل.

تخيل أن يقف السائح على الساحل، يراقب الصيادين وهم ينسجون سعف النخيل، يسمع شرحاً عن حركة المد والجزر، ثم يشارك في بناء جزءٍ من الحضرة، أو يشاهد عملية الصيد عند الفجر، ويغوص بعدها ليرى الأسماك في داخلها... إنها تجربة إنسانية كاملة، تفتح نافذة على روح المكان وأصالته.

الحضرة هي طريقة تفكير في التوازن، واحتفاءٌ بالصبر، وتذكيرٌ بأن الإنسان لا يمكن أن يعيش في انسجام مع العالم، إن لم يفهم إيقاعه الطبيعي، وعلينا أن نحافظ على ((إيقاع إنساني)) يربطنا بعنصر البحر، الذي شكّل وعينا الجمعي عبر قرون، وكيف ينبغي أن نبقى متصلين بجذورنا مهما ارتفعت مدننا نحو الأفق.

أرى أهمية تحويل الحضرة إلى تجربة سياحية وثقافية مستدامة، إنها دعوة لإحياء الذاكرة من جديد، كوعيٍ بالمستقبل، فالمجتمع الإماراتي الذي يحمي دائماً ذاكرته، فإنه يحمي نفسه من الذوبان، ويُبقي هويته متجددة، نابضة بالحياة، قادرة على أن تُلهِم، وتُبدِع، وتُعيد سرد حكاية البحر بلسان جديد.

MENAFN19102025000110011019ID1110217836

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.