البخل آفة النفس الإنسانية

(MENAFN- Al-Bayan) قد ثبت في الحديث الصحيح أنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، سأل بني سلمة وهم قوم من خِيار الأنصار فقال: (من سيّدكم يا بني سلمة؟) فقالوا: جُدُّ بن قيس على أننا نُبخّله -يعني يرمونه بالبخل- فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وأيُّ داءٍ أدوى من البخل! بل سيّدكم عمرو بن الجموح). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد))، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) وغيرهما.

في هذا الحديث النبويّ الشريف إدانة صريحة لداء البخل، وأنّه من أشدّ الأدواء فتكاً بالنفس الإنسانية وأكثرها انحرافاً بالفطرة السليمة عما جُبلت عليه من حبّ الخير وبذل المعروف، وفيه أيضاً تصحيح لمقام السيادة بين البشر.

وأنّ السيادة على القوم لا تكون لبخيل أبداً، ولا غروَ في صدور ذلك عن الحبيب المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان أكرم الناس، وكان مبسوط الكفّ كالريح المرسلة لا يردّ سائلاً، ولا يختزن مالاً، وينفق نفقة من لا يخشى الفقر أبداً، صلى الله عليه وسلم.

استلهاماً من هذا الموقف النبويّ الشريف، وتعبيراً عن الاعتزاز بقيمة الكرم والتنفير من داء البخل، كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، كلمة نفيسة من وحي التجربة الشخصية في كتابه الثمين ((علّمتني الحياة)) بعنوان ((البخل والبخلاء)) استهلّها بقوله:

((علّمتني الحياة أنّ أعظم ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من السمو أن يبذل المعروف لأخيه الإنسان، ولا غرابة أن تُسمّى أعمال الخير بالأعمال الإنسانية، لأنّها تمثّل أسمى ما يمكن أن يصله الإنسان بروحه))، بهذا القلب الفياض بالحب.

وبهذه الكلمات المتوهّجة بعمق المعنى يُقرر صاحب السمو أن بذل المعروف للإنسان مهما كان موقعه في هذه الحياة هو رأس القمّة في هرم الفضائل، وأن السمو الأخلاقي يتجلى في أبهى صوره في هذا السلوك الإنسانيّ الرفيع، وأنّه من أجل هذا الشرف لعمل الخير وبذل المعروف سُمّيت كلّ أعمال الخير بالأعمال الإنسانيّة تأكيداً على قيمة محتواها الأخلاقي حين يتعلّق بالإنسان:

صدوراً منه ورجوعاً إليه، وأنّ هذه المنقبة الأخلاقية هي سبب سعادة الإنسان، لأنّ سعادة الروح في الكرم، والروح من عند الله، والله كريمٌ يحب الكرم.

وقد يخطر في البال أنّ الكرم قرين الغنى والثراء، لكنّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يبدّد هذا الوهم ويصحّح هذه النظرة حين يقول: ((علّمتني الحياة أيضاً أنّ الكرم لا يرتبط بالغنى وكثرة المال، فكم من غنيّ بالمال فقيرٍ بالروح))، ليصحّح بهذه الكلمات الرائعة ميزان العطاء.

وأنه نابع من قلوب راغبة في فعل الخير، ومن نفوس منشرحة الصدور بتقديم المعروف للإنسان، وأنّ الكرم ليس من فعل الجيوب والأرصدة، بل هو منقبة أخلاقية لا يحظى بشرفها إلا أصحاب النفوس الشريفة، والأخلاق الزكيّة، ممن يعتقدون جازمين أنّ صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

فطوبى لكلّ نفسٍ كريمة وكفّ معطاء، فإنّ الخير كلّ الخير في البذل والعطاء، ولا نعرف كريماً إلا والخير أسرع إليه من السَّيل إلى منحدره تحقيقاً لدعاء الملائكة الكرام في الحديث الصحيح: ((اللهم أعط منفقاً خلَفاً)).

وعبر المسيرة الطويلة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في العمل العامّ، ساعد الكثير الكثير من الناس على تأسيس أعمالهم ودعم شركاتهم وتنمية ثرواتهم، وكان المأمول فيهم أن يكونوا عند حسن الظنّ، وأن تكون أيديهم مبسوطة للخير في مساعدة المحتاجين وبذل المعروف.

لكنّ بعضهم لم يكن عند المأمول من ظنّ صاحب السمو، فبعد أن ساعده في تنمية ثروته أضعافاً مضاعفة، أخفق عند أوّل امتحان، وقبض يده عن الإنفاق حين ذهب إليه بعض فرق العمل لطلب المساهمة في عمل الخير، لكنّه لم يتبرّع بدرهمٍ واحد، مما ترك أثراً غير حميد في قلب صاحب السمو الذي ينشر ثقافة الكرم والعطاء، ويعزّ عليه أن ينزلق بعض كبار الأثرياء إلى هذا الموقف المذموم، وتعليقاً على هذا الموقف الغريب يتساءل صاحب السمو قائلاً:

((قلت في نفسي: من بخل بالخير على نفسه، فهو أبخل به على غيره، ولا أدري هل يخاف الفقر وهو غني؟ فالعطاء بركة وزيادة))، ولا يزال صاحب السمو يتساءل عن الدوافع وراء هذا السلوك حتى يصل إلى موقف حاسم من البخل حين قال:

((البخل مرض مُهلك، ومذمّة في الدنيا والآخرة، وتلف للروح وللمال معاً))، ثمّ تضرّع إلى ربّه قائلاً: ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من بُخل المال، وبُخل المعرفة والحكمة والنصيحة، وبُخل المشاعر)).

وترسيخاً لثقافة البذل والعطاء، ونشراً لهذا السلوك الأخلاقي الحميد، ظل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يُطلقُ الكثير من الحملات المجتمعية لفعل الخير، ولم يكن ذلك من قلّة المال.

فالمال موجود بحمد الله وبوفرة، بل كان الهدف بحسب عبارة صاحب السمو تحقيق وفرة القيم وتنمية ثروة الأخلاق والرحمة، وغرس روح البذل والمعروف، وبناء أجيال تعتاد فعل الخير وتجعله جزءاً من حياتها، فهذه هي النظرة السامية لفعل الخير في نظر صاحب السمو، ويُعلل ذلك بأنّ اليد المفتوحة بالخير لا تخسر بل تربح، ولأنّنا كلما أعطينا اقتربنا من الناس، واقتربنا من الله، واقتربنا من حقيقة أرواحنا وسَعِدنا.

ثمّ كانت الوقفة الكبرى لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مع النماذج العليا في البذل والعطاء، حيث يقرّر بكل وضوح أنّه لا يوجد قائد عظيم لم يكن كريماً، لأنّ الكرم شرف ومروءة وخلق عظيم، ثمّ ابتدأ بأكرم الخلق حسّاً ومعنىً وهو سيّدنا وقدوتنا محمّد، صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعطي كالريح المرسلة، مروراً بخلفائه وملوك المسلمين عبر تاريخهم الطويل.

حيث توقّف صاحب السمو عند أعمالهم الجليلة الدالة على كرم نفوسهم من إنشاء الأوقاف، وبناء المستشفيات المجانية ومطاعم الفقراء ودُور الحُجّاج، وغير ذلك من المرافق الدالة على كرم نفوسهم، ليكون خاتمة هؤلاء الكرام هو المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان.

حيث وصفه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بأنّه ما ترك باباً للخير إلا طرقه، ولا بلداً فقيراً إلا أعانه، وأنّه بعد وفاته بأكثر من عشرين عاماً ما زلنا نكتشف أعمالاً للخير أخفاها، ومشاريع للفقراء لم يُعلنها في مشارق الأرض ومغاربها، ولذلك بارك الله في ذريته وفي بلده وفي شعبه، ليختم هذه الدرس الثمين بقوله: ((وأنا أقول: بأنّ الله اختصّ من عباده أناساً حبّبهم للخير وحبّب الخير إليهم، نسألُ الله أن يجعلنا منهم، وأن يقينا شرّ البخل والبخلاء)).

MENAFN10102025000110011019ID1110180469

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.