وائل السمرى يكتب: شفيرة الساعة الخامسة

(MENAFN- Youm7) لسنوات طوال لم أعرف لماذا أشعر بهذا الارتباك كلما دقت الساعة الخامسة. شيء في الأجواء يقول لي إن الأمور ليست على ما يرام، أشعر كأن الساعات تمضي عرجاء، أن العقارب تتعثر في مشيتها، أن اليوم مجروح والدواء عزيز.
المصادفة قادتني إلى اكتشاف أشبه باكتشاف جلال الدين الرومي لحكمة الناي.
"استمع إلى الناي يأخذ في الشكاية.. ومن الفُرَقات يمضي في الحكاية
من يوم أن كان من الغاب اقتلاعى.. وأنا أشكو حرقتي والتياعي"
وفي هذا البيت يريد الصوفي الأشهر أن يقول إن الإنسان دائما يحن إلى أصله، حتى إن صوت الناي الحزين الملتاع ما هو إلا أنين ابتعاده عن منبته وأصله. فإلام أحن؟ ولماذا أرتبك؟
بعد نهار طويل من العمل والتشاحن والسعي والجري والتشتت، تأتي الساعة الخامسة، وبعد الغذاء يصمت الكون لبرهة، في مرحلة انتقالية بين النهار والليل، وذات ارتباك قادتني الصدفة إلى سماع أم كلثو في الخامسة، فعرفت أنها كانت بالنسبة لي مفتاح الحيرة وقفلها.
أبناء جيلي يعرفون هذا جيدا، فقد تربينا على إذاعة“أم كلثوم” التي كانت تبدأ بثها في الخامسة مساء بصوت الست، ست الستات والرجال، ست الشرق وآيته، ست الطرب وأستاذته، ست الحب وسيرة الحب.
كان صوتها يصدح في الكون، فلا تكاد تمر على بقعة من أرض مصر إلا وتسمعه: في البيوت نسمع أم كلثوم، في المواصلات العامة، في الورش والدكاكين.
كان صوتها يحضر فيصبغ الكون بالطرب، يد حنون تأخذ بيديك إلى سكون الليل لتبدأه بالسحر والأنغام.
في هذا التوقيت تماما، تحتاج إلى من يمسح غبار اليوم ويطيب حرجَه.إلى وسادة وثيرة تسند عليها الوعي، ليتخدر أو ليفيق.
كان صوتها يأخذنا يوميا مع غروب الشمس، لتفعل بنا ما تفعله يد الأمهات التي تصطحب أبنائها إلى المهاد، أو ليفعل بنا ما كانت تفعله سفينة رع التي تأخذ النور إلى الأزلية بعد أن يمسح الكون بالحياة ويتركها في رعاية القمر.
في هذا التوقيت بالذات تحتاج إلى:“تعالى خلي نسيم الليل على جناح الشوق يسري، أو إلى“يا قلبي آه.. الحب وراه .. أشجان وألم وأندم وأتوب.. وعلى المكتوب ما يفدش ندم.. وأنت الحب اللي مفيش" أو إلى "كنت بشتاقلك وأنا وأنت هنا" أو إلى“وعمري ما اشكي من حبك مهما غرامك لوعني"
كان صوتها يعيد لنا التوازن، يعيد لنا المعاني، يعيد لنا الشعور، يعيد لنا اللغة، ويعيد لنا الحياة.
وقتها فحسب اكتشفت أن شفيرة الخامسة هي صوت أم كلثوم، موسيقاها المحفورة في القلوب، نغمتها الخالدة في الروح. واكتشفت أيضا أنني كنت أحتاج إلى نفس عميق، استنشقه بعد أن يفيض الصدر حبا ونغما، و إلى غيمة قطيفية أختبئ خلفها فأنسى قواعد اللعب واللعبة واللاعبين.



MENAFN01102025000132011024ID1110138298

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث