شارع المتنبي.. سؤال الورق في بغداد

(MENAFN- Al-Bayan) في زمن تتحول فيه القراءة إلى ضوء شاشة، وتقاس علاقتنا بالكتاب بعدد الملفات المخبأة في الهاتف، بدا لي شارع المتنبي، خلال زيارتي بغداد قبل أيام، حدثاً غير قابل للتكرار؛ شارع كامل تقوم حياته على الورق، ليس مكتبة واحدة كما نجده في المراكز التجارية الضخمة حول العالم، ولا مكتبتين أو ثلاث مكتبات، كما هو المعتاد في الشوارع الثقافية الكبرى، بل شريط ورقي مكتبي يمتد لأكثر من ستمئة متر، يضم أكثر من مئة وعشرين مكتبة متلاصقة، وبسطات كتب ضخمة.

هذا المشهد وحده نادر، فقلما يوجد في مدينة كبرى شارع بطوله مكرس للكتب دون انقطاع، حتى في لندن وباريس أو غيرهما تتوزع المكتبات أو كشكات على مسافات متباعدة، لا في خط واحد متواصل كشارع المتنبي، لكن السؤال الأهم الآن هو:

لماذا لا يزال هذا الشارع حياً في زمن تقرأ فيه الكتب إلكترونياً؟ ولماذا ازداد ازدحاماً بينما العالم كله يتجه نحو القراءة الرقمية الفردية السريعة؟

بدت الإجابة واضحة مع مراقبة الناس، ففي شارع المتنبي الممتد في قلب بغداد، وبمحاذاة دجلة، لا يأتي الزائر ليقرأ فقط، بل ليكون جزءاً من قراءة أكبر منه، فهو ليس بشارع تجاري، بل الشارع الوحيد الذي يمنح للمعرفة حضوراً اجتماعياً، لا توفره الشاشات، فهناك تبادل للآراء، نقاش عابر، وسؤال يطرحه أحدهم على وراق يعرف العناوين عن ظهر قلب، وفي منطقة يلعب الموسيقيون على أوتارهم وأصوات الوجد، هناك تجمعات للنقاش، ووجوه تتوقف أمام الكتب لا لأنها تبحث عن معلومة فحسب، بل لأنها تبحث عن إحساس بالانتماء، وإلى ثقافة معاشة، لا مخزنة.

تاريخ هذا الشارع العائد إلى القرن التاسع عشر لم يتشكل بقرار، بل نما كونه حاجة معرفية، بينما اليوم نراه ينمو كاحتياج مضاد للعزلة الرقمية، مساحة تذكر الإنسان بأن المعرفة ليست عملية فردية دائماً، وأن للورق دوراً آخر غير القراءة، في جمع الناس.

ولعل ندرة الشارع عالمياً تفسر قوته محلياً، فالمكان يلتقط شيئاً تخسره المدن الحديثة تدريجياً، أن تكون الثقافة جزءاً من المشهد اليومي، لا نشاطاً يمارس على انفراد، ليس لأنه يتمسك بالماضي، بل لأنه يقدم للمستقبل ما تفتقده التكنولوجيا، بحضور الإنسان إلى جانب الإنسان، ولذلك لا يبدو شارع المتنبي مقاوماً للتطور، وهذا سره، أنه يمنح زائره شعوراً بأنه في وطن صغير من ورق ودود، يعود كلما ضاقت به الحياة ليعيد الطمأنينة، ويذكره بأن الثقافة لا تهزم، في مساحة يفقده العالم الرقمي، فالشارع يحفظ طريقة عيش كاملة، تجعل القراءة الورقية جزءاً من المجال العام لا فعلاً صامتاً خلف شاشة.

MENAFN11122025000110011019ID1110465090

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث