أحمد جاسم الملا.. أول دبلوماسي قطري بعد الاستقلال
ومن تلك الأحداث الهامة أيضاً في عام 1971، الإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر، ومنها أيضاً التوقيع على وثيقة استقلال قطر، في الثالث من سبتمبر 1971، في جنيف، من قبل الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، بوصفه حاكماً لقطر، والسير جيفري آرثر المقيم السياسي في الخليج عن الحكومة البريطانية. وفي الدوحة، تم الإعلان عن استقلال البلاد في بيان عبر تلفزيون قطر، قرأه ولي العهد/ رئيس مجلس الوزراء آنذاك، الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
وعلى الفور تسارعت الخطى في البلدان الثلاثة لتشكيل هياكل الدولة وإداراتها ووزاراتها، وطلب عضوية جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة، وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع الدول الشقيقة والصديقة.
في ما يتعلق بقطر، يخبرنا السفير أحمد جاسم الملا، الذي سنوثق سيرته في هذه المادة، باعتباره أول دبلوماسي قطري، أنه بعد استقلال قطر، تمّ تشكيل وفدين، أحدهما لطلب الانضمام لجامعة الدول العربية، والآخر لطلب عضوية الأمم المتحدة.
ويضيف أن الوفد الأول كان برئاسة علي بن أحمد الأنصاري وزير العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك، وعضويته هو مع خليفة بن سلطان المعاضيد، وأن الوفد سافر إلى القاهرة عن طريق بيروت، وتقدم بالطلب، وتمت الموافقة عليه بتاريخ 11 سبتمبر 1971.
أما الوفد الثاني، فقد كان برئاسة مستشار حكومة قطر وقتذاك، الدكتور المصري حسن كامل، وضم في عضويته يوسف محمد عبيدان وإبراهيم بن حمد النصر وسالم علي النعيمي، وتقدم بطلب انضمام قطر إلى الأمم المتحدة، بتاريخ 21 سبتمبر 1971، وتمت الموافقة على ذلك بتاريخ 23 سبتمبر 1971، وفي العام التالي، تمّ تعيين جاسم بن يوسف جمال، كأول مندوب دائم لقطر لدى الأمم المتحدة.
ومما يتذكره الملا أيضاً، أن أول من قدم أوراق اعتماده كسفير معتمد لبلاده في الدوحة، هو السفير البريطاني ديفيد هندرسون، وذلك بتاريخ 6 سبتمبر 1971، وأن أول سفارة قطرية في الخارج كانت في لندن، وافتتحت في عام 1972، تحت قيادة الشيخ أحمد بن سيف آل ثاني، الذي يعد أول سفراء قطر لدى المملكة المتحدة، وقد خدم هناك حتى عام 1976.
وفي الفترة نفسها، تمّ افتتاح سفارات قطرية في كل من فرنسا والولايات المتحدة ومصر والأردن والعراق وإيران ولبنان والكويت والمملكة العربية السعودية. وفي السنوات التالية، توالى افتتاح سفارات وقنصليات وبعثات تمثيلية لقطر في بقية العواصم العربية والدولية، حتى بلغ عددها اليوم نحو 200 بعثة دبلوماسية.
ولد أحمد جاسم محمد عبد الرحمن عبد الله الملا في عام 1947، بـ ((براحة الجفيري)) (منطقة تقع في الدوحة بالقرب من سوق واقف)، ونشأ وترعرع في بيت العائلة الكبير، الذي يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والذي شهد نشأة والده وجده وأعمامه، مثلما شهد نموه وسط أجواء عائلية مميزة، وفي ظل تقاليد وقيم عربية أصيلة. فقد تعلم ((السنع)) وآداب الضيافة والمائدة والحديث، واحترام الكبير والعطف على الصغير والإحسان للفقير والمحتاج، وقواعد مسك الدلال النحاسية، وصب القهوة العربية للضيوف.
تحدث الملا عن والده فقال إنه بدأ ((نوخذة)) في البحر، وكان يملك ((لنج)) (مركب) يسافر به إلى البحرين والبصرة، لنقل الركاب وجلب التمور والأخشاب ومواد التموين والبضائع المختلفة، وأنه كان يغيب فترات طويلة هناك ثم يعود. ويضيف أن والده عمل بعد ذلك في الحكومة، فسُلمت له سفينة حديثة سريعة من الفولاذ لقيادتها ما بين ((إمسيعيد)) وميناء رأس تنورة السعودي والدوحة، لنقل البترول الخام إلى السعودية لتكريره، ثم إعادته إلى قطر.
كما تحدث الرجل عن جده الأكبر ((عبد الرحمن بن جاسم بن عبد الله الملا))، المتوفى في أربعينيات القرن العشرين، فأخبرنا أنه كان إماماً وخطيباً، ومن رجال الدين في زمنه، ومدرساً للقرآن، وأنه كان يتنقل على دابة ما بين منزله في سوق واقف ومسجد الرميلة لإلقاء خطبة الجمعة، وكان يملك دكاناً في سوق واقف، بالقرب من سوق الطيور منذ العشرينيات.
وتحدث عن جده لأمه، الشاعر والطواش ((أحمد بن عبد الرحمن بن جاسم بن عبد الله الملا، فقال إنه ولد في عام 1875، وتلقى علوم النحو والصرف عند الأتراك العثمانيين، فقرض الشعر وكتب الدواوين بالفصحى والنبطي، وكان يمتلك سفينة سماها ((محبي الهوى))، يمارس بها الغوص على اللؤلؤ، ويسافر عليها كثيراً إلى البحرين، مضيفاً أنه التحق بالمدرسة الأثرية التي أسسها الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع سنة 1918، في فريج ((السلطة))، بطلب من الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني، وكان من أهل الصدقات، وصاحب علاقات واسعة وصداقات كثيرة مع علية القوم. كما تحدث عن عمه ((يوسف بن عبد الرحمن بن جاسم الملا))، فقال إنه ((كان رجلاً عصامياً، تربى في كنف والده وإخوته، وكان قارئاً وحافظاً للشعر والأدب، وقد استفدتُ منه شخصياً أموراً كثيرة في تاريخ قطر وأنساب قبائلها وعوائلها، وكان صاحب شخصية، وذا ذاكرة قوية، بقيت كذلك حتى وفاته عام 1992)).
بعد أن أنهى مراحل دراسته النظامية في الدوحة، ابتعث الملا إلى القاهرة لإكمال دراسته الجامعية، أسوة بالمئات من خريجي الثانوية العامة، الذين تقرر إرسالهم إلى الخارج، بأوامر من ((أبو التعليم))، المرحوم الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني، لإتمام تعليمهم الجامعي، بسبب عدم وجود جامعات داخل البلاد وقتذاك (في ستينيات القرن العشرين).
عاد إلى وطنه في عام 1970، ضمن أوائل الخريجين الجامعيين، مكللاً بشهادة الليسانس في علم الاجتماع من جامعة القاهرة، فتم تعيينه في أكتوبر من العام نفسه بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية الناشئة، بمسمى ((مفتش)) بمنطقة إمسيعيد. وبصفته الوظيفية تلك، قام بالتعرف إلى مشاكل العمال القطريين ومعاناتهم، وأعد تقارير بذلك لرؤسائه.
يقول الملا، في حوار مع صحيفة ((الشرق)) القطرية (27/9/2018)، إنه بعد شهرين فقط من تعيينه مفتشاً بوزارة العمل، وتحديداً في السابع من يناير 1970، استدعي هو وزميله إبراهيم بن حمد النصر (السفير لاحقاً)، من قبل مكتب الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، رحمه الله (ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك) للمقابلة. ويضيف أنه أخبرهم بأنه حريص على أن يتولى الشباب القطري المسؤولية لخدمة الوطن، وأنه سيتم نقلهم للعمل بإدارة الشؤون الخارجية، التابعة لرئاسة مجلس الوزراء (لم تكن وزارة الخارجية قد تأسست بعد وقتذاك).
وهكذا، كان الملا أول دبلوماسي قطري يتم تعيينه في الخارجية القطرية بوظيفة ((سكرتير ثالث)). ويتذكر الملا فيقول ما مفاده، إنه بدأ العمل سكرتيراً ثالثاً في قسم المراسم، وأنه كان يداوم في مكتب واحد بمبنى الحكومة (وزارة المالية حالياً) مع آخرين، مثل يوسف محمد عبيدان، ومحمد علي الأنصاري، وعلي حسين المفتاح، وخليفة بن سلطان العسيري المعاضيد، وسالم علي النعيمي، وعبد اللطيف حسن الجابر.
بعد أن تأسست وزارة الخارجية القطرية في عام 1971، وأدمجت فيها إدارة الشؤون الخارجية بمجلس الوزراء، التي كانت قائمة منذ عام 1969، وأنيطت حقيبتها للشيخ سحيم بن حمد آل ثاني، رحمه الله، وبعد أن صدر القانون رقم 26 حول نظام السلكين الدبلوماسي والقنصلي، صار الملا مديراً لإدارة المراسم، خلفاً لمديرها السابق محمد بن علي الأنصاري، الذي تم تعيينه في عام 1974، أول سفير قطري في ألمانيا الغربية.
استمر الملا يؤدي عمله مديراً لإدارة المراسم في الخارجية القطرية بكفاءة ونشاط وإخلاص، من عام 1975 إلى عام 2003، الذي شهد ترقيته إلى وظيفة ((مستشار وزير الخارجية لشؤون المراسم والمؤتمرات))، بدرجة وزير، وهو المنصب الذي ظل ممسكاً به حتى تقاعده في سبتمبر 2025.
تحدث الملا عن طبيعة عمله في المراسم، فأخبرنا أنها اشتملت على استقبال ضيوف قطر من الوزراء ورؤساء الوزارات، ومرافقتهم، وإعداد برامج زياراتهم وجولاتهم ولقاءاتهم مع المسؤولين القطريين، ناهيك عن الإعداد لتقديم أوراق اعتماد السفراء المعتمدين لدى قطر، وإعداد كافة الترتيبات للمؤتمرات المنعقدة بالدوحة، مشيراً إلى أن استقبال ومرافقة قادة الدول، لم يكن من ضمن مهام إدارته، وإنما تتولاه التشريفات الأميرية.
عاصر الملا كمواطن كل حكام قطر، منذ حاكمها الرابع، المرحوم الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، في خمسينيات القرن العشرين، وعاصرهم مسؤولاً منذ حاكمها الخامس، الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، فحاكمها السادس المرحوم الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. وبحكم منصبه ومسؤولياته، رافقهم في معظم زياراتهم الخارجية للدول العربية والأجنبية منذ عام 1971. وكانت رحلته الخارجية الأولى إلى إيران في نوفمبر 1971، برفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، لحضور احتفالات شاهنشاه إيران بمرور 2500 عام على تأسيس الإمبراطورية الإيرانية، على يد كورش الكبير.
ومن ناحية أخرى، حضر الملا، بحكم منصبه، عدداً كبيراً من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية التي شاركت فيها قطر، سواء تلك التي انعقدت في الدوحة أو خارجها، وكان شاهداً أيضاً على زيارات العديد من القادة والمسؤولين العرب والأجانب لبلاده، ولقاءاتهم مع أمراء قطر ووزرائها.
كما عمل مع كل الوزراء الذين قادوا الخارجية القطرية، منذ وزيرها الأول، الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني. وعن فترة البدايات تلك، التي وصفها بالصعبة والمرهقة جداً، قال: ((كنا نعمل ليل نهار، على مدار الساعة، ونعد لاستقبال ضيوف البلاد، ونذهب للمطار، ونجهز الفنادق والمرافقين، وغيره من الأمور، وبصراحة، مهنة المراسم في وزارة الخارجية صعبة، وتحتاج لتركيز وصبر ودقة في المواعيد، ولا مجال للخطأ، لذا، كانت أعصابنا مشدودة طوال فترة عملنا، ولم نكن مقيدين بدوام المكتب، بل نعمل خارج ساعات الدوام الرسمي بإخلاص وتفانٍ، من أجل قطر)).
من الزيارات التي شارك فيها، من تلك التي لا تنمحي من ذاكرته ــ بحسب قوله ــ مرافقته للأمير الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني إلى لاهور سنة 1974، لحضور مؤتمر القمة الإسلامي الرابع، ومرافقته لرئيس الوزراء الأسبق الشيخ عبد الله بن خليفة آل ثاني إلى نيويورك سنة 1995، بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس هيئة الأمم المتحدة، وحضور حفل تنصيب نيلسون مانديلا رئيساً لجنوب أفريقيا سنة 1994، ومرافقته لوزير البترول الأسبق الشيخ عبد العزيز بن حمد آل ثاني إلى سريلانكا، لحضور مؤتمر دول عدم الانحياز سنة 1976، ثم إلى طوكيو في سنة 1978، للتوقيع على إنشاء مصنع للحديد والصلب في قطر، ومرافقته لرئيس الوزراء الأسبق الشيخ محمد بن خليفة آل ثاني، في زياراته إلى اليمن وتركمانستان ورومانيا، ومرافقته لوزير التربية والتعليم الأسبق، الشيخ محمد بن حمد آل ثاني، إلى اليابان سنة 1990، لحضور حفل تنصيب الإمبراطور أكيهيتو، ومرافقته لوزير الماء والكهرباء الأسبق، الشيخ جاسم بن محمد بن جاسم آل ثاني إلى البحرين سنة 1982، لحضور اجتماعات دول مجلس التعاون الخليجي.
ويتذكر الملا الجهود الكبيرة التي بذلها مع زملائه في دائرة المراسم في عام 1979، للإعداد الجيد والمتقن لأول زيارة إلى قطر على الإطلاق، قامت بها ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، حيث وصلت بحراً، على متن الباخرة ((بريتن))، وتمّ استقبالها بميناء الدوحة، من قبل الأمير الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وولي عهده ووزراء الحكومة، ورجالات الدولة والسلك الدبلوماسي، وتمّ إعداد برنامج حافل لها خلال زيارتها التاريخية، التي تخللها منحها أعلى وسام قطري (قلادة الاستقلال).
وأخيراً، فإن الملا أصدر في عام 2017 كتاباً توثيقياً ومؤرشفاً بشكل علمي وممنهج، في 730 صفحة، عن نشأة وتطور وزارة الخارجية القطرية، بعنوان ((46 عاماً على إنشاء وزارة الخارجية القطرية)).
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
Comments
No comment