حيويّة الدولة بين التوهّج والانطفاء

(MENAFN- Al-Bayan) تحت عنوان ((كيف تفقد الدُّول حيويّتها؟))، كتب صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، واحداً من أعمق الدروس وأشدّها تنبيهاً لمخاطر التفريط في الحفاظ على مكتسبات الدولة، بعد طلوع شمسها في سماء الحياة، فقد أبدع سموه في تشخيص الحالة، والتغلغل في رصدِ أسبابها، واقتراح الوسائل الكفيلة بالبقاء والصمود في عالم يمور بالظروف، ويحتشدُ بالتحدّيات، بحيث يمكن القول إنّ هذا الدرس هو واحدٌ من الدروس الّتي ينبغي التفكير طويلاً في محتواها، واستلهام كلّ كلمة كتبها صاحب السموّ من وحي خبرته الخاصّة، ونظراته النافذة في صيرورة الدُّول ومسارات التحوّل.

((كيف تفقدُ الدُّول حيويّتها؟ هل تشيخُ الدُّول والحكومات؟ وهل يمكن أن تذبل وتنطفئ؟ لماذا تتراجعُ بعض الأمم؟ في حين تنطلق دول أخرى بمسارٍ مستمرٍّ من التطوّر والإنجاز؟))، انطلاقاً من هذه الأسئلة الخمسة، يناقشُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد المحتوى العميق الّذي تشتملُ عليه هذه الأسئلة الكبيرة، النابعة من خبرة ثريّةٍ في الحكم والسّياسة، والتأمُّل المتبصّر في مصائر الأمم، ورصد الأسباب الّتي تؤدي إلى تدهور الأمم والدول، مع التأكيد على أنّه - بحسب كلام صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد - ((لا بُدَّ أن يكون لدينا الوعي حول كيفيّة فقدانِ الأُمم لمكاسبها، وتراجُع نفوذها، وفقدانِ حيويّتها، لأنّ فهمنا لدورة حياة الحكومات والدُّول، مفتاحٌ لمقاومة التراجع، وعاملٌ أساسيّ في الحفاظ على المكاسب)).

تأسيساً على ما تقدّم من كلام صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، فقد توصّل إلى خمسة أسبابٍ جوهريّة، هي المسؤولة عن تراجع الدول، وأفولِ شمسها بعد سطوعها وتوهّجها، وقد جعلها مرتّبة على النحو التالي:
يقول صاحب السموّ: ((السببُ الأوّلُ للتراجع: ضعفُ القدرة على التكيّف مع المتغيّرات بكافة أنواعها، العالم يتغيّر بسرعةٍ كبيرة، وعدم التكيّف جمودٌ وتراجعٌ وتخلُّف))، وتعقيباً على هذا السبب الجوهريّ، وضّح سموه مفهوم التكيّف وأهمّيته، وخطورة الغفلة عنه، بقوله: ((العبقريّة هي في التكيّف، البقاءُ ليس للأصلح ولا للأقوى، ولكن للأكثر قدرة على التكيّف مع المتغيّرات التقنيّة، والمتغيّرات الاقتصاديّة والمتغيّرات السياسيّة وغيرها))، وواضحٌ أنّ صاحب السموّ ينتقل بفكرة البقاء من مفهومها القديم، الّذي كان يقول: إنّ البقاء للأقوى بحسب نظرية الانتخاب الطبيعيّ، إلى مفهومٍ جديد، هو التكيُّف، باعتباره طريقة الإنسان الذكيّة في مواجهة التحوّلات ورياح التغيير، فهو خيارٌ للإنسان، يختاره بكامل وعيه، ويجعله صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، من دلائل العبقريّة الإنسانيّة، وتوضيحاً وتعميقاً لهذه الفكرة، يواصل سموه شرح هذا السبب، ويربطه بوعي القيادة، بقوله: ((القيادة الّتي تملك الوعي بحجم المتغيّرات حولها، وسرعة التطوّرات في كافّة المجالات، ولديها القدرة على المواكبة، هي القيادة التي تحافظ على حيويّة دولها، المرونة في عالمٍ مليءٍ بالتحدّيات والفرص، ليست فقط وسيلة للتفوّق، بل أساس للبقاء والاستمرار))، وفي هذا الكلام تشديدٌ على الدَّور الكبير للقيادة في الحفاظ على حالة التقدّم والازدهار، وأنّها يجبُ أن تمتلك الرؤية والجرأة والقدرة على المبادرة، ليس فقط من أجل الحفاظ على المكتسبات، بل من أجل تعزيزها وتطويرها، والمحافظة على معادلة التقدّم والنماء.

أما السبب الثاني، بحسب رؤية صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، فهو التصلّب والجمود البيروقراطيّ في المؤسّسات الحكوميّة، حيث انتقد سموه حرص كثير من المؤسّسات بعد فترةٍ من الزمن على البقاء، أكثر من حرصها على القيمة التي يمكن أن تضيفها إلى الحياة والمجتمع، بحيث تصبح أنظمتها مقدّسة، وغير قابلةٍ للنقاش، مع التشبّث بموقعها، على الرغم من تأخّرها في مواكبة التطوّرات الحديثة والتقنيات المستجدة، وهنا، يؤكِّدُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد على دور القيادة الواعية، المتّصفة بالمرونة الإدارية القادرة على كسر هذه البيروقراطيّة، وتحريكِ الموارد وتفكيكِ المؤسّسات الّتي يمكن أن تقف عقبة في طريق التقدّم والتطوّر السّريع، فإذا لم تبادر القيادة إلى امتلاك زمام المبادرة، وكانت غير قادرة على تغيير إيقاع التقدّم ومجراه، فلا شكّ أنها ستُصاب بالعجز والهرم والشيخوخة، التي ستكون عبئاً على الدولة والمجتمع.

أما العاملُ الثالث الّذي يؤدِّي إلى ذبولِ الحكومات وانطفاءِ المجتمعات، بحسب عبارة صاحب السموّ، فهو الإهمالُ الاقتصاديّ، والجمودُ في تطوير حركة وإبداع وحيويّة القطاع الخاص، وتعقيباً على هذا العامل الخطير، يقول سموه، توضيحاً للدّور الكبير للاقتصاد في نشأة الدول وتطوّرها: ((الاقتصاد هو شريان الحياة في الدول، وعلى قدر صحّة وحيويّة هذا الشريان، تكون صحّة وحيويّة الدولة))، وواضحٌ ما في هذا التشبيه بالشريان من قوّة الدلالة على فكرة الحياة والموت، فإذا كان الدمُ الّذي يجري في الشريان هو المسؤول عن نعمة الحياة في الإنسان، فإنّ الاقتصاد هو الشريان الذي يضخّ الدم في جسد الدولة، وحين ينقطع هذا الشريان، فإنّ الدولة كلها ستلاقي نفس المصير، في إشارة إلى الارتباط العضويّ بين الحياة والاقتصاد، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، قائلاً في توضيح هذا الترابط: ((الاقتصاد يعني الحياة الكريمة للبشر، ويعني التجديد المستمرّ، ويعني البناء المتواصل في شكل وطريقة الحياة))، وكما نبّه صاحب السموّ القيادة في العامل السابق، أعاد تنبيهها هنا أيضاً، حين قال: ((والقائد الذي لا يضع الاقتصاد أوّلاً وقبل كلّ شيء، يضع بلاده على مسارٍ أكيدٍ من التراجع والانكفاء والجمود)).

أما ضعف النخبة القياديّة في الحكومات، فقد جعله صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، العامل الرابع الذي يؤدّي إلى تدهور الدول، وتراجع المجتمعات، فالحكومة عند صاحب السموّ هي رأس الدولة، ولا بد أن يضمّ الرأس أفضل العقول، وأقوى الكفاءات وأذكى الأفكار، وعليه، فإنّ الاستثمار في القيادات المتفوّقة والمواهب الشابّة المتدفّقة بالحياة، هو الاستثمار الأفضل والأهمّ في مستقبل الدُّول، وغير خافٍ ما يعنيه صاحب السموّ من أنّ استثمار الطاقات الشابّة، هو أهمّ الضمانات لبقاء شباب الدولة، وهو ما تعتمده دولة الإمارات في تشكيل الحكومات، ما يمنحها هذه الطاقة المتجدّدة، ولذلك يُحذِّرُ صاحب السموّ من النكوص عن هذا الخيار، ويؤكِّدُ على أنّه عندما تبدأ الدول في وضع قياداتٍ حكوميّة بناء على المجاملات والولاءات الشخصيّة والمحسوبيّات، فاعلم أنّها في الطريق السريع للتراجع.

وأخيراً، فقد كان الفساد هو السبب الخامس للتراجع في مسيرة الدول، وقد سبق لصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، أن خصّ هذه الظاهرة بدرس عميق، بعنوان ((القاتل الصامت))، شدّد فيه الوطأة على ثقافة الفساد، وها هو يعود إلى التشديد عليه في هذا الدرس، تأكيداً على خطورته، لأنّ الفساد، بحسب عبارة سموه ((هو السرطان الذي يأكل الإنجازات، ويقضي على طموحات الشباب، ويطرد الاستثمارات، وينخر في الجسد من الداخل))، وبعد هذا الوصف المخيف للفساد، يعود صاحب السموّ إلى تنبيه القيادة إلى ضرورة مقاومته بكل حنكة وقوّة وذكاء، فيقول: ((لذلك، القائد الحقيقيّ هو الّذي يتأكّدُ من هندسة هياكل الدّولة بطريقةٍ تضمن مكافحة هذه الآفة، ووضع آليّاتٍ في كافّة مفاصلها لترسيخ العدالة، وبما يضمن أن تكون المساءلة والمحاسبة هي الثقافة السائدة، لأنّه بدون محاسبة، لن يشعر أحدٌ بالمسؤولية، وبالمحاسبة تترسّخُ الثّقة في الحكومات، ويتعزّزُ الأداء، ويسودُ الاستقرار)).

لكن الدرس العميق الّذي تعلّمه صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد من هذا كلّه، هو ما ختم به هذا الدرس الكبير، حين قال: ((علّمتني الحياة أنّ الركون للنجاح بداية للفشل، وأنّ غرور الإنجاز سبيلٌ للتراجع، وأنّ الأمم العاقلة، هي التي تُجدِّدُ نشاطها، وتُراجعُ مُسلَّماتِها، وتُواجهُ أخطاءها بكلّ جرأة، للحفاظ على حيويّتها وشبابها)).

MENAFN15112025000110011019ID1110349546

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

البحث