محمد بن عيسى آل خليفة.. رائد الحركة الأدبية في البحرين

(MENAFN- Al-Bayan) الحركة الثقافية والفكرية في البحرين جزء من الحركة الثقافية في منطقة الخليج العربي، لكنها تتميز عن الحركات الثقافية الخليجية الأخرى بالأسبقية والقدم.

وهناك عوامل عدة أسهمت في ذلك، منها حضارات البحرين القديمة مثل دلمون وتايلوس وأوال، ناهيك عن حضارة هجر المرتبطة تاريخياً بحضارات البحرين القديمة، التي أنجبت أسماء أدبية وشعرية، مثل الشاعر أبي البحر جعفر الخطي، وطرفة بن العبد، وابن المقرب.

ومن تلك العوامل كذلك طبيعة البحرين الجغرافية بوصفها جزيرة وميناء منفتحين على الجوار القريب والأبعد، وما نجم عن ذلك من تواصل قديم ومستمر مع مراكز الثقل الثقافي العربي في مصر وبلاد الشام والعراق، واستقبال الوافدين من مختلف الجنسيات والثقافات، ومنها أيضاً تأسيس مدارس العلم للبنين منذ العقد الثاني للقرن العشرين، وللبنات منذ العقد الثالث منه، ودخول المطابع إلى البلاد في وقت مبكر، ثم تأسيس الصحافة عام 1939 على يد أبيها الروحي الشاعر وتاجر اللؤلؤ عبدالله الزايد، وانتشار الصحف والمجلات المحلية في وقت أبكر من الدول الخليجية المجاورة.

وما يجدر بنا ذكره في هذا السياق أيضاً ظهور الأندية الأدبية في البحرين منذ العقد الأول من القرن العشرين، حيث تأسس في عام 1913 نادي إقبال أوال في المنامة ليكون أول نادٍ أدبي في عموم الخليج، تلاه النادي الأدبي في المحرق عام 1920 على يد مجموعة من الشباب المثقف، وبدعم ومشاركة من التجار والوجهاء والشيوخ، وقد تزامن هذا الحدث مع تأسيس أولى مدارس البحرين النظامية، وهي مدرسة الهداية الخليفية في عام 1919، وكان لوجود عدد من كبار المثقفين والأعلام العرب ضمن أطقم إدارتها وتدريسها (مثل المصري حافظ وهبة، والكويتي خالد الفرج، والسوري محمد الفراتي، والعراقي محمد بحر العلوم، والعماني عبدالله الطائي) دور مشهود في تعزيز المشهد الثقافي في البلاد، ونشر العلم والمعرفة والتنوير، كما كان للتجار الذين اعتادوا السفر إلى الهند، في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، للتجارة أو الدراسة أو السياحة، دور مماثل لجهة الاطلاع على ما كان يدور في الهند البريطانية من أفكار حديثة ومدهشات عصرية ونقلها إلى البحرين.

إن هذا يقودنا إلى الحديث عن واحد من أبرز رواد الحركة الأدبية والفكرية في البحرين والخليج العربي، وهو الشيخ محمد بن عيسى بن علي بن خليفة آل خليفة، الشهير بـ((الشاعر الوائلي))، الذي يعد نموذجاً للإنسان البحريني الذي أمضى جل سنوات عمره في تثقيف نفسه من خلال الأسفار والاطلاع على كنوز الأدب القديمة ومؤلفات مجايليه، والتواصل مع رموز عصره في مجالات العلم والمعرفة والتنوير، ونظم القصائد الرفيعة الملهمة، والدعوة إلى طلب العلا للارتقاء بالذات، كسبيل للارتقاء بالأوطان العربية واستعادة أمجادها التليدة.

ولد الشيخ محمد بن عيسى بن علي بن خليفة آل خليفة بمدينة المحرق، في عام 1878، ونشأ وترعرع مع إخوته الخمسة الذكور في بيت والده حاكم البحرين التاسع، الشيخ عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن أحمد الفاتح آل خليفة (1848ــ1932)، الذي حكم البحرين من عام 1869 حتى تاريخ وفاته عام 1932، إذ شهدت فترة حكمه استقراراً سياسياً وتنمية اقتصادية وبناء للدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها ومعالمها العصرية، وعليه فإن الشيخ محمد بن عيسى بن علي بن خليفة آل خليفة هو أخ لكل من حاكم البحرين العاشر، الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة (1872 - 1942)، الذي حكم البحرين من عام 1932 حتى انتقاله إلى جوار ربه في عام 1942، وأخ كذلك للشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة (1883 - 1966)، الفارس والسياسي والقاضي والمستشار، الذي يلقب برائد النهضة التعليمية البحرينية، وهو من جهة أخرى عم لحاكم البحرين الحادي عشر، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (1894-1961) الذي حكم البحرين من عام 1942 حتى وفاته وانتقال الحكم إلى نجله الأمير عيسى بن سلمان آل خليفة (1933-1999)، وهو أيضاً الجد الثاني للفريق أول ركن الشيخ راشد بن عبدالله بن أحمد بن محمد بن عيسى آل خليفة، وزير الداخلية.

عاش الشيخ محمد بن عيسى في مرحلة سادها الاستقرار وتميزت بالتهيؤ لحقبة التنمية والتحديث للحاق بركب العصر، الأمر الذي كان له تأثير واضح في نتاجه الشعري وحراكه الثقافي.

تلقى تعليمه بحفظ القرآن الكريم وختمه في سن السادسة، واعتمد لاحقاً على نفسه في نهل مختلف العلوم والمعارف من خلال القراءة والاطلاع على أمهات الكتب العربية في الأدب والشعر والتاريخ والتراث، وعزز حصيلته المعرفية بحضور مجالس والده، والاستفادة مما كان يدور فيها من نقاشات وأخبار وقصص وحكايات ومبارزات شعرية، خصوصاً وأن علامات شغفه بالأدب وفطنته وذكائه وقدرته العالية على الحفظ ونظم النبطي من الشعر وفصيحه ظهرت عليه منذ صباه الباكر.

ولعل من دلائل شغفه بالاطلاع والتعرف على كل ما هو جديد أنه كان يسافر كثيراً إلى الخارج ويقيم في بعض الدول (مثل المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان والهند) فترات تطول.

وقد سمحت له زياراته تلك اقتناء وقراءة كل ما هو جديد من نتاج المطابع المصرية واللبنانية في مجال الأدب والشعر والتاريخ والتراث بصفة خاصة، ناهيك عن أن رحلاته الخارجية أثمرت عن تعرفه على ثلة من الساسة وأصحاب القلم والفكر العرب والأجانب، وتواصله معهم.

وباختصار شديد اطلع على التراث العربي الأدبي والشعري واستثمره لإغناء تجربته ولخدمة اللغة والثقافة العربية.

كان للشيخ محمد بن عيسى آل خليفة إسهامات مشهودة في العملين الثقافي والتربوي، فقد كان عضواً مؤسساً في النادي الأدبي بالمحرق (الذي تحدثنا عنه سابقاً)، ومشاركاً فعالاً في أنشطته، وداعماً لرواده وأعضائه من الشباب البحريني المثقف، وكان مساهماً أيضاً في تحرير صحيفة ((البحرين)) الأسبوعية، أولى صحف البحرين والخليج، وفي تأسيس مدرسة الهداية الخليفية، أولى مدارس البلاد النظامية.

ومن أجل أن يتواصل مع أدباء البحرين ومثقفيها وعلمائها، أسس في مجلسه منتدى أدبياً كبيراً للالتقاء بهم، وأيضاً لرعاية جيل الأدباء والشعراء الأوائل.

إلى جانب اهتماماته الأدبية وشغفه بالمعرفة، أسهم في العمل الإداري للدولة، من خلال رئاسته لبلدية المنامة، التي كانت بمثابة البلدية المركزية للبحرين، وذلك في الفترة من عام 1929 حتى العام 1938.

إلى ذلك، كان ضمن الأسماء الممثلة للبحرين في بعض المناسبات الخارجية، فعلى سبيل المثال رافق أخاه الشيخ عبدالله بن عيسى ضمن وفد البحرين إلى بريطانيا العظمى للتهنئة بيوم النصر، فحصل من الملك جورج الخامس على وسام بريطانيا العظمى من الدرجة الثانية، ورافقه أيضاً إلى القطيف لتهنئة الملك عبدالعزيز آل سعود بانتصاراته في توحيد البلاد السعودية، وشارك، نيابة عن ابن أخيه الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، في حفل تنصيب الملك فيصل الثاني على عرش العراق سنة 1953، حيث نال وسام الرافدين من الحكومة العراقية.

إن الذين كتبوا عن خصال المترجم له أجمعوا على أنه كان كريماً في عطاياه، وشهماً صادقاً في تعاملاته، وجسوراً مقداماً في مواقفه، وحكيماً في أقواله وآرائه.

أما الذين كتبوا عن نتاجه الأدبي، فقد أشاروا إلى أنه نظم الشعر العمودي في أغراض تقليدية معينة، مثل النسيب والرثاء والحنين والفخر، كما نظم قصائد تدعو إلى الوحدة العربية، وتربية الشباب وتعليمهم، ومقاومة الاستعمار، والنهوض والتقدم، والحرية والإصلاح، محافظاً في أشعاره على وحدة الموضوع، ومتخلصاً فيها من المقدمات التقليدية، كما أشاروا إلى أنه كان يذيل قصائده بتوقيع ((الوائلي)).

لقد تألق الوائلي في فضاء الشعر العربي والخليجي بسبب موهبته الشعرية أولاً، ثم بسبب تفاعله مع بيئات وتيارات فكرية وأدبية متنوعة من تلك التي كان يتردد عليها ويصادق أعلامها ومبدعيها.

وتأثر، كغيره، بـ((لامية الطغرائي))، فعمد إلى قراءتها وتذوقها ومجاراتها، قبل أن يحاكي لغتها وأساليبها وإيقاعها، ويكتب معارضة لها من 42 بيتاً باسم ((لامية آل خليفة))، التي افتتحها بقوله:

العزم والحزم مفتاحان للأمل

والفوز إدراكه بالعلم والعمل

والحقيقة أن ((الوائلي)) اشترك مع ((الطغرائي)) في التوجيه الاجتماعي والإرشاد الأخلاقي، وما يستلزمهما من معاني الحكمة والتأمل، لكنه خالفه في الكثير من الموضوعات أيضاً نتيجة اختلاف العصر والأوضاع العامة، خصوصاً فيما يتعلق بالأمة ومصيرها ونهضتها.

عدا الطغرائي، اهتم الشيخ محمد بن عيسى بشعر مهيار الديلمي، فكتب معارضة لقصيدة الديلمي المعروفة باسم ((جنة الحب ومجد العرب))، حيث تغنى في معارضته بأمجاد العرب عموماً، وأمجاد البحرين خصوصاً، مستخدماً لغة قوية جزلة وبلاغة غير متكلفة.

انتقل الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة إلى جوار ربه في عام 1964، وبعد وفاته صدر له في البحرين ديوانان مطبوعان، هما: ((ديوان الوائلي)) سنة 1975، و((ديوان الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة)) سنة 1987.

إلى ذلك، له قصائد عدة تم نشرها في جريدة البحرين، منها: ((كفى ما أعاني)) نشرت في مايو 1940، و((لا تعذلوه)) نشرت في مارس 1941، و((هكذا تعنو الأسود للغزلان)) نشرت في يونيو 1941.

وله أيضاً قصيدة نبطية عصماء أنشدها بعد ورود أخبار انتصارات الملك عبدالعزيز آل سعود في إحدى معارك التوحيد، ومطلعها:

قال من هو تهيض في تماثيله

ساهر يوم كل نايم غافي

كم حريب طغى واشرع مواصيله

بالهنادي سفينا جمعة اتلافي

حي مزن من العارض مشى سيله

نور برقه ظهر في كل الاطرافي

والمخابيط وبله في هما ليله

والرعد فيه صوت الملح رجافي

والجدير بالذكر أن حفيدة المترجم له، الشيخة الدكتورة لولوة بنت خليفة آل خليفة، أصدرت في عام 2014 كتاباً عن شعره وتراثه والبيئة الشعرية التي تأثر بها تحت عنوان ((الصور الفنية في شعر الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة)).

قلنا إن الشاعر ((الوائلي)) كان يسافر كثيراً، وبسبب مركزه الرفيع وانتمائه إلى الأسرة الخليفية الكريمة، فقد كان محل ترحيب كبير أينما ذهب.

وفي عام 1958 حدث وأنْ كان في زيارة خاصة إلى الهند، فاستقبله رئيس حكومتها آنذاك جواهر لال نهرو، بمكتبه، ودعاه لحضور جلسة مشتركة للبرلمان الهندي، فلبّى الشيخ الدعوة وجلس في الجناح المخصص للدبلوماسيين.

ونختتم ببعض الأبيات من قصيدة الوائلي المعنونة بـ((ما أحلى تدللها)):

دع عنك لومي فقد أصممتُ آذاني

لا الأهل أهلي، ولا الأوطان أوطاني

ولا الظباء التي قد كنت أعهدها

هذي الظباء، ولا الغزلان غزلاني

ولا الغناء الذي قد كنت أسمعه

هذا الغناء ولا الألحان ألحاني

ولا النمارق صُفّت في أرائكها

ولا الحدائق من زهر وأغصان

هذي القصور وهذي الدور خاوية

إنْ لم أجد من يناجيني ويهواني

سقى معاهد ليلى كل منهمرٍ

ضافي الستائر داجي اللون مِرنان

إذا تذكرتُ أيام الربيع سمت

نفسي لليلى بذات الطّلح والبان

إذ أقبلت وحشاها من روادفها

يشكو وتَبْسمُ عن درّ ومرجان

ترضى وتغضب ما أحلى تدللها

وتصرف الطرف عنّي، ثم ترعاني

تقول قف، أين أمضيت النهار وما

دعاك تَخْلف وعدي، كيف تنساني؟

MENAFN02112025000110011019ID1110283338

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.