الحكومة وصناعة الحياة

(MENAFN- Al-Bayan) الحياة الجميلة القائمة على النظام والبساطة والإنجاز، هي أجمل الهِبات التي يمكن أن تقدّمها الحكومة للشعب، في إطار العقد الاجتماعي المعقود بين الطرفين، ولإنجاز هذه المهمة، لا بُدّ من جذرٍ أخلاقيّ يجمع بين هذين الطرفين، وهو جذر الثقة، فحين تثق الحكومة بالشعب، تندفع في تقديم أفضل الخدمات من أجل إسعاده، وحين يثق الشعب بالحكومة، ترتقي علاقته بها إلى درجة الحبّ والولاء، فإذا اختلّ هذا المنظور، ظهرت المشكلات الّتي تُكدّر صفو الحياة لكلا الطرفين.

تحت عنوان ((تبسيط الحكومة))، كتب صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، واحداً من أروع الدّروس في كتابه الثمين ((علّمتني الحياة))، عالج فيه مفهوم العمل الحكومي، وحلّق عالياً في سماء الإبداع والنقد، مستلهماً ذلك من خبرته الطويلة في الحكم وإدارة الدولة وصناعة الحكومات، موظِّفاً ثقافته العميقة في شكل الحكومات، ومدى نجاحها وعوامل إخفاقها، ليقدّم لقرّائه هذه الخلاصة المكثّفة من الفكر السياسي والإداري، الّذي يصقل الخبرات، ويثري التجارب، وينشر ثقافة العمق الممزوج بالبساطة، الّذي هو في جوهره الوجه الحقيقيّ للعبقريّة الإنسانيّة.

((علّمتني الحياة أنّه كلّما ارتقى الإنسان، أصبح أبعد عن التعقيد، وأقرب إلى البساطة، وإلى جوهر الأشياء))، بهذه الكلمات المعدودة، يفتتح صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم هذا الدرس العميق من دروس الحياة، مؤكِّداً على عمق التلازم بين الرقيّ الأخلاقيّ والنضج السياسيّ والاجتماعيّ، وبين الرغبة في تبسيط الحياة والعيش، ضمن حقائقها المباشرة، بعيداً عن التعقيد الّذي يُخفي الجوهر الجميل للحياة، وهي حكمةٌ تنطبقُ على الحياة في أدقّ تفاصيلها، وهو ما سيطبّقه سموه على التفكير الأعلى في المجتمع، والّذي يفترضُ أنّ الحكومة هي الّتي تحمله، وهو ما سيعالجه سموه في هذا الدرس، بكلّ عُمقٍ وأصالة واقتدار، مع إدراكه التامّ لقيمة فكرة البساطة، وأنّها ليست مرادفة للترهّل والسطحيّة، بل هي ممارسةٌ في غاية الذكاء، تؤدِّي في النهاية إلى الهدف المنشود، وهو بحسب تعبير سموه ((تحريك دورة الحياة)).

((دور الحكومة الأساسيّ، تنظيم حركة الحياة وتمكينها، لكنّ أغلب الحكومات تركّز على التنظيم وتبالغ فيه، وتنسى الجزء الثاني، وهو تمكين حركة الحياة ودفعها، لتكون الحياة نابضة بالإبداع، متدفّقة بالإنجاز والإنتاج))، بكلّ هذا الوضوح يُحدِّدُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، الدور الحقيقيّ للحكومة، والمتمثّل بتنظيم الحياة وتمكينها، منتقداً انشغال الحكومات بالتنظيم على حساب التمكين، واستنزاف الجهد في تحقيق فكرة التنظيم في العمل، كشكلٍ من أشكال الحضور، مع أنّ وظيفتها الرئيسة هي تمكين الحياة، بمعنى أن يحياها النّاس بكامل حقائقها وبهجتها وصدقها، بعيداً عن الرُّوتين والتعقيد والإجراءات الّتي لا حاجة إليها، لأنّ الاهتمام بتمكين الحياة، هو الّذي يمنح الحياة طعم الإبداع، ويجعلها نهراً متدفّقاً بالإنجاز والإنتاج، فتحصل السعادة بهذا التصوّر الصحيح البسيط للحياة، بعيداً عن الإطار التنظيميّ الذي يهتمُّ بالشكل على حساب الجوهر والمضمون.

ويُفسِّرُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم هذه الحالة الصحّية للحكومة، من خلال الرجوع إلى فكرة الأساس الأخلاقيّ للحكومة، المتمثّل في خدمة النّاس وتسهيل مصالحهم، فإذا تمّ تحقيق هذا الهدف، فالحكومة في موقعها الصّحيح، وإذا وقع الإخلالُ به، فهي تحتاج إلى المحاسبة والمراجعة، لأنّ حركة الحياة تختنقُ بكثرة المراجعات، بحسب تعبير سموه، وتتباطأ إنتاجيّة النّاس، فيتحوّل دور الحكومة من الخدمة إلى السيطرة، ومن التسهيل إلى الهيمنة.

وبنبرةٍ لاذعةٍ، ينتقدُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، فكرة تراكم الإجراءات والسياسات التي يمكن للحكومة أن تضيفها كلّ يومٍ، مع صعوبةِ التراجع عنها أو التخفيف منها، ليكون حصيلة ذلك كلّه، هو ما عبّر عنه سموه بقوله: ((ثم تصل الحكومة بعد سنوات لمرحلةٍ تكون فيها الإجراءات أهمّ من النتائج، والأوراق والوثائق أهمّ من الخدمة ذاتها، والأنظمة مقدّسة أكثر من مصلحة البشر)).

وعلى الرغم من قناعة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم بقيمة التقنيّات في تسهيل الخدمات، وتخفيف حدّة الإجراءات، والتخلّص من كثيرٍ من التعقيدات، إلا أنّ رهانه الأساسي سيظلُّ على الأساس الأخلاقيّ الّذي سبق تقريره، وهو خدمة المجتمع، لأنّ القناعات الفكريّة هي الأقوى، والثقافة الحكوميّة المسيطرة، هي العامل الأكبر، وفي هذا السّياق، يوجّه سموه نصائحه وتوجيهاته للعاملين في الحكومة من كبار المسؤولين، لتعزيز الحسّ الأخلاقيّ في العمل، قائلاً: ((لا بُدّ أن يؤمن القائمون على الحكومات، بأنّ البيروقراطيّة الزائدة والتعقيدات الكثيرة، هي جريمةٌ بحق أوطانهم.

عندما يحتاجُ صاحب الفكرة العظيمة عشرات التواقيع البيروقراطيّة، حتى يُطلق فكرته، فهناك جريمةٌ تُرتكب، وتحبيطٌ لعزيمته، وحرمانٌ للمجتمع من فكرته. عندما تُفرض مئاتُ الإجراءات على أصحاب الاستثمارات أو الصّناعات الّتي تشغّل آلاف البشر، فيتباطأ العمل، ويقلّ الإنتاج، هناك جريمةٌ ترتكب، وحرمانٌ لآلاف الشباب من الفرص المعيشيّة))، وملحوظٌ ما في لغة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، من شعورٍ عميقٍ بالأسف لطغيان النزعة البيروقراطيّة على العمل الحكوميّ، وما ينتج عن ذلك من الخسائر المادية والمعنوية.

بعد ذلك يُجري سموه مقارنة بين الدُّول الّتي تسير فيها الإجراءات بكلّ سهولة ويُسر أمام الاستثمار، وبين الدول الّتي تضع العراقيل والعقبات أمام نعمة الاستثمار، ليخلُص من ذلك كلّه إلى فكرةٍ عميقة التأثير، هي فكرةُ الثقة، وهو ما عبّر عنه بقوله: ((كلّما تفكّرت بعمق في سبب كثرة هذه التعقيدات الإدارية، أجد على رأسها ((الثقة))، عندما لا تثقُ الحكومات في شعوبها، تفرض عليهم إجراءاتٍ كثيرة، وإثباتاتٍ متعدّدة لا معنى لها))، ليجزم سموه بعد ذلك قائلاً: ((الثقة هي الأساس بين الحكومات والنّاس))، وملحوظٌ من كلام سموه مدى تعويله على الأُسس الأخلاقيّة في إدارة الدولة، وتنظيم عمل الحكومات، فالرقابة جيّدة ومفيدة، لكنّ صحوة الضمير الأخلاقيّ أكثر أهميّة وفائدة ودافعيّة للحياة، ومن هنا، يُلِحُّ سموه على ضرورة إحياء الحسّ الأخلاقيّ في الحكم والسياسة، وتغيير قناعات النّاس، وهو ما عبّر عنه بقوله: ((عندما تتغيّر قناعات الحكومات، وتثق بشعوبها، يمكن إزالة أغلب هذه الإجراءات))، ويتوقّف صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عند تجربة دولة الإمارات، ونجاحها في تجفيف كثيرٍ من منابع التعقيد الإداريّ، لكنّه ما زال يطمح إلى تحقيق المزيد، لأنّه يؤمنُ على المستوى الشخصي بأنّ الرحلة مستمرّة، وليست هدفاً ينبغي الوصولُ إليه، وأنّه سيستمرّ في تغيير العقلية الإداريّة للحكومات نحو مزيدٍ من تبسيط الحياة، ونشر نعمة العيش داخل منظومةٍ واضحة من التعليمات والإجراءات، قائلاً بكلّ ثقة وعزيمة واستشراف للمستقبل البعيد: ((سأستمر، لأنّ الحكومة البسيطة أقربُ للنّاس ولجوهر الحياة))، لتكون خاتمة هذا الدّرس البديع، هو هذه الكلمات الّتي تستحقّ الكتابة بماء الذهب، حين يقول سموه، منوّها بفكرة الحكومة البسيطة: ((الحكومة البسيطة أقرب حتّى للشرعيّة السياسيّة، لأنّ رضا الناس هو الأساس في شرعيّة الحكومات، والحكومة البسيطة أقرب للعدالة الاجتماعية، لأنّه لا يوجدُ تمييزٌ خفيٌّ بين الّذين يعرفون النظام بتعقيداته، وبين الّذين لا يعرفون)). مستخلصاً من ذلك كلّه الثمرة العظيمة، حين قال: ((تبسيطُ الحكومة، هو تبسيطٌ للحياة، وإطلاقٌ لإمكانات الإنسان العظيمة، وقوّةٌ دافعةٌ لصناعة الحضارة البشرية)).

MENAFN02112025000110011019ID1110283337

إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.