
بين فضيلة التواضع ورذيلة التكبر
في هذا السياق من الحديث عن بصيرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون القصتان الأولى والثانية في سيرته الذاتية الأولى (قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً) تدوران حول هذه القضية الأخلاقية لدى الحكام، ففي القصة الأولى، ((من هناك بدأنا))، يشيد سموه بأخلاقية التواضع والبساطة التي كان يتمتع بها جده طيب الذكرى الشيخ سعيد آل مكتوم، رحمه الله، والذي كان حاكماً قريباً جداً من قلوب شعبه بحيث إن دبي كاملة كانت تنتحب حزناً عليه حين غادر هذه الحياة الدنيا، لتكون القصة الثانية بعنوان ((زيارة إلى ملك الملوك)) حيث قصّ على قُرائه طبيعة المشاعر التي شعر بها حين كان في الثالثة عشرة من عمره أثناء زيارته مع والده لشاه إيران الذي كان يجلس على عرش الطاووس، وينفق ملايين الدولارات على الاحتفالات الباذخة في الوقت الذي كان فيه شعبه يرزح تحت أقسى ظروف الفقر، وكيف أن نهايته كانت نهاية مأساوية حين سقط عن عرشه وقضى أواخر حياته طريداً شريداً لم يجد مكاناً يأوي إليه، لتكون هذه المقارنة إدانة واضحة لكل مشاعر التكبر والاستكبار، والذي جعله واحداً من الدروس العميقة التي أضاءها سموه وجعلها الدرس الخامس عشر من كتابه الثمين ((علمتني الحياة)).
((علمتني الحياة أن أخاطب الناس بقولي ((أخي)) و((أختي)) لأذكّر نفسي وأذكّرهم بأن أبانا واحد، كُلنا لآدم، وآدم من تراب)) بهذه الكلمات الدالة على صفاء القلب وتواضع النفس، يفتتح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذا الدرس العميق من دروس الحياة بصهر المسافة بينه وبين جميع الناس الذين يتعامل معهم من خلال الوقوف على أرضية الإخاء الإنساني التي تجمع بين جميع من ينتمي للآدمية، وتزيل الفوارق المصطنعة التي تصنعها النفوس المنحرفة عن طريق الفطرة السليمة، فجاءت كلمات سموه تمهيداً للفكرة المركزية في هذا الدرس والتي لخصها بعبارة واضحة بسيطة خلاصتها ((علمتني الحياة أن التكبر مفسدة ومنقصة، والتواضع رِفعةٌ وفضيلة، ولا يتكبرُ إلا الجاهل، ولا يتواضعُ إلا صاحب العقل)) فبهذه اللغة الحاسمة يقرر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن التكبر هو خُلق ناشئ من فساد النفس وشعورٌ داخليٌ بالنقص، وأن التواضع هو أرقى مظاهر الكمال الإنساني، وأن التكبر هو من صنيع الجُهال الذين لا يعرفون قيمة الحياة ومعاييرها الجوهرية، لكن العقلاء هم الذين يعرفون أن التواضع هو التعبير الصادق عن إنسانية الإنسان، وأن الناظر في سيرة العظماء الحقيقيين يجد أنهم كانوا يستمدون عظمتهم من تواضعهم وقربهم من الناس، ولنا في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم درس، فقد كان يتعامل مع الناس بأخلاق الكرام المتواضعين فكان لا يكسر قلباً، ولا يرُد سائلاً، ولا يستنكفُ عن تلبية دعوة أحد حتى لو كان من بُسطاء الناس، فكان بذلك موضع الثناء من ربه تعالى حين قال له في معرض التكريم والتنويه: {وإنك لعلى خُلُق عظيم }.
وبذكاء القائد البصير يتفحص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذا النقص الأخلاقي خارج شخصية الإنسان الفرد، ليؤكِد أن الشعور بالتكبر قد يكون موجوداً في الأمم والشعوب وليس مقتصراً على الأفراد، وقد أبدع سموه بالحديث عن تفاصيل هذه الرذيلة الجماعية، وذكر الكثير من النتائج الوخيمة الناشئة عن هذا الخُلُق الذميم، يقول سموه: ((علمتني الحياة أن الشعوب أيضاً يمكن أن تتكبر على غيرها، يظنون أنهم الأنقى، والأصفى، والمختارون)) ففي هذه الكلمات إشارة من سموه تأخذ طابع الإدانة لبعض الشعوب التي تتميز بالاستعلاء الحضاري وتحتقر ما عداها من الشعوب وترى فيهم نوعاً من البشر من درجة ثانية، وربما تُشكّكُ في صلاحيتهم للحضارة، وأما إذا وصل الأمر إلى الاعتقاد بأنهم الشعب المختار والعِرقُ المقدس فربما دفعهم ذلك إلى خوض الحروب وسفك الدماء في سبيل تحقيق هذه الفكرة الباطلة، وبحسب عبارة سموه: ((كم من حروبٍ أبادت الملايين بسبب تكبر شعوب على غيرها))، ثم أشار إلى واحدةٍ من أخطر المظاهر الناشئة عن التكبر وهي ظاهرة التطهير العِرقي التي ليس لها سبب سوى التكبر: ((تكبر الشعوب والقوميات، وإحساسهم بالفوقية، وأنهم أفضلُ من غيرهم)).
ظاهرةٌ أخرى أدانها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في سياق حديثه عن ظاهرة التكبر هي ما يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي من العبارات الدالة على ذلك، وهو ما سماه سموه ((التكبر الشعبي)) وذكر مثالاً من تلك العبارات من مثل قولهم: ((نحن الأفضل، نحن الأكثر تقدماً، نحن الأعلى والأقوى والأسمى)) لينتقد سموه هذه اللغة المتحيزة ويطرح بدلاً منها فكرة ((الوطنية الحقيقية أن تُحِب وطنك وشعبك دون أن تكره بقية الشعوب أو تحتقر بقية الأوطان)) مطالباً بنشر ثقافة الاحترام للآخرين لأن ذلك هو مفتاح التقدم والازدهار، ولأن احترام الشعوب بحسب كلام سموه يؤدي إلى بناء جسورٍ ثقافية وتجارية وعلمية ومعرفية، في حين أن احتقار الشعوب سيؤدي إلى إشعالِ نارِ الكراهية وتأجيجِ مشاعر التعصب والدمار، وقطيعةٍ ثقافية وحضارية تكون على النقيض مما ذكره الله تعالى من حكمة اختلاف الخلق بقوله سبحانه: { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا }.
وبحكمة القائد البصير يقوم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بتهدئة الإيقاع في هذه القضية ليقول إن الحياة تدور كما تدورُ الكواكب، وإن الأحوال متغيرة، وإن الحضارات القوية التي صنعت مجد الإنسان هي التي تتواضع في لحظات الرخاء والقوة والازدهار، وبإحساس الإنسان المتواضع يستلهم سموه الدرس الأعمق في هذه الحياة حين يقول: ((علمتني الحياة أن التكبر والفوقية عدو الحضارة، لأن الحضارة لا تصنعها دولة لوحدها، بل يصنعها التعاون والتكاتف بين الدول والأمم والشعوب)).
وتأكيداً على عمق هذه الفكرة ورسوخها في وُجدان سموه وعقله يُعيد صياغتها بشكلٍ فيه عُمق اللمسة التربوية حين يختتم هذا الدرس العميق بقوله الواثق الرصين: ((إن الشعوب العظيمة تتواضعُ عند انتصاراتها، وتتعلمُ من أخطاء غيرها، وتعترفُ بفضل الآخرين حتى وهي في قمة عزها ومجدها)) ليكون مسكُ الختام لهذا الدرس الثمين من دروس الحياة مُستلهَماً من قوله تعالى: { وتلك الأيامُ نداولها بين الناس }.
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
وسط احتجاجات "لا للملوك" .. فانس ينشر فيديو لـ "الملك ترمب"...
نهائي كأس العالم للشباب بين المغرب والأرجنتين .. الموعد والقنوات ال...
بالفيديو .. هدف استثنائي مذهل بالدوري الروسي...
جويهي يرحل عن "بالاس" نهاية الموسم...
بيراميدز المصري يفوز بكأس السوبر الأفريقي...
فصل للكهرباء عن مناطق بالأغوار الشمالية الأحد...