
عقل الدولة بين البراغماتية والأيديولوجيا
الدولة كيان معقد يتأرجح بين قوتين متعارضتين: البراغماتية، التي تسعى إلى تحقيق المصالح وفقًا للواقع، والأيديولوجيا، التي تستند إلى منظومة فكرية وقيمية ثابتة، وبين هذين الاتجاهين، يتشكل "عقل الدولة"، وهو الإطار الفكري الذي يحدد كيفية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهنا يبرز التساؤل: هل ينبغي للدولة أن تكون براغماتية بالكامل لتحقيق أقصى منفعة، أم أن التمسك بالأيديولوجيا ضروري لحفظ الهوية والاستقرار؟
تمثل الأيديولوجيا في الدولة مجموعة المبادئ والقيم التي تؤمن بها وتتبناها كأساس لشرعيتها، سواء كانت دينية، قومية، ليبرالية، أو اشتراكية، فهي توفر إطارًا أخلاقيًا وفلسفيًا يحكم قراراتها وسياساتها، كما تسهم الأيديولوجيا في تحقيق الانسجام الاجتماعي، حيث تمنح الشعوب إحساسًا بالهوية والانتماء، مما يعزز الوحدة الوطنية، فضلاً عن ذلك، يضمن ثبات المبادئ استقرار الدولة على المدى الطويل، ويمنحها شرعية سياسية تعزز من قوتها الداخلية والخارجية.
إلا أن الأيديولوجيا قد تتحول إلى عائق أمام تقدم الدولة إذا انغلقت على ذاتها ورفضت التكيف مع المتغيرات العالمية والإقليمية، فالجمود الأيديولوجي قد يؤدي إلى إعاقة الإصلاحات، حيث تُمنع الحكومات من اتخاذ قرارات اقتصادية أو اجتماعية ضرورية بحجة الحفاظ على "المبادئ"، كما أن التشدد الأيديولوجي قد يؤدي إلى صراعات داخلية وخارجية، إما بسبب قمع الحريات الداخلية أو نتيجة تصادمها مع دول ذات توجهات مختلفة.
في المقابل، تمثل البراغماتية نهجًا أكثر مرونة، حيث تسعى الدولة إلى اتخاذ القرارات بناءً على المصلحة الوطنية دون التقيد بمبادئ جامدة، فالدولة البراغماتية لا تبحث عن "الحق المطلق"، بل عما هو "ممكن ونافع" وفقًا للظروف المحيطة، ومن مزايا البراغماتية أنها تتيح القدرة على التكيف مع المتغيرات بسرعة، مما يمكن الدولة من تعديل سياساتها الاقتصادية والسياسية لمواكبة المستجدات الدولية والمحلية، كما أنها تعزز تحقيق المصالح الوطنية من خلال التركيز على المكاسب الفعلية، وليس مجرد الشعارات الكبرى، علاوة على ذلك، تساعد البراغماتية على تخفيف الصراعات من خلال إقامة تحالفات وتفاهمات حتى مع الخصوم الأيديولوجيين إذا كان ذلك يخدم المصلحة الوطنية.
لكن البراغماتية المطلقة ليست بلا ثمن، إذ قد تفقد الدولة بعدها الأخلاقي إذا تحولت إلى تكتيك نفعي بحت دون إطار مرجعي، كما قد يؤدي الإفراط في البراغماتية إلى إضعاف الهوية الوطنية، حيث تصبح الدولة مجرد لاعب في السوق الدولي بلا خصوصية ثقافية أو اجتماعية، بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي القرارات البراغماتية المتغيرة إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، إذ قد تفقد الحكومة ثقة المواطنين إذا بدت متناقضة أو غير مبدئية.
فإذا كانت الدول التي تتبنى الأيديولوجيا الصارمة تواجه خطر الجمود، وتلك التي تتبع البراغماتية المطلقة قد تفقد هويتها، فكيف يمكن للدول الحديثة أن تصوغ نموذجًا سياسيًا يوازن بين الثبات القيمي والمرونة الاستراتيجية، خصوصًا في ظل العولمة والتحولات الجيوسياسية المتسارعة؟
بالتأسيس على ذلك، لا يمكن لدولة أن تعيش بالأيديولوجيا وحدها، ولا يمكنها أيضًا أن تتبنى البراغماتية المطلقة دون فقدان هويتها، فالعقل السياسي الناجح هو الذي يمزج بين الاثنين بحكمة، بحيث تسترشد الدولة بمبادئها وقيمها، لكنها في الوقت نفسه تمتلك المرونة الكافية للتكيف مع المتغيرات.
إن عقل الدولة الناجح هو ذلك الذي يدرك أن الأيديولوجيا تمنحها الشرعية والاستقرار، بينما تضمن البراغماتية القدرة على البقاء والمنافسة، فالدول التي تتمسك بالمبادئ دون قدرة على التكيف قد تتآكل قوتها ببطء، والدول التي تتحول إلى براغماتية بحتة قد تفقد هويتها وشرعيتها، والتحدي الحقيقي هو تحقيق التوازن، حيث تبقى الدولة مخلصة لقيمها، لكنها في الوقت نفسه قادرة على التفاعل بذكاء مع الواقع المتغير.
أما الأردن، فهو مثال يحتذى في تطبيق منهجية جديدة يمكننا تسميتها بـ "البراغمالوجيا"، حيث يبرع نظامه السياسي بقدرته الفائقة على تحقيق توازن دقيق بين الالتزام بالأيديولوجيا الوطنية والعربية، وبين تبني نهج براغماتي يضمن استقرار الدولة وحماية مصالحها في بيئة إقليمية ودولية متغيرة، فالأردن ليس دولة أيديولوجية جامدة ترفض التكيف مع الواقع، كما أنه ليس دولة براغماتية متطرفة تتخلى عن ثوابتها من أجل المصالح اللحظية، بل يتبنى نموذجًا سياسيًا مرنًا يمزج بين المبادئ الثابتة والقدرة على التكيف مع المتغيرات
إلا أن التساؤل الأهم يبقى قائمًا: في ظل الظروف الجيوسياسية المعقدة والوضع الاقتصادي الصعب الذي يواجهه الأردن، كيف يمكن للدولة الحفاظ على توازنها بين الأيديولوجيا الوطنية والبراغماتية السياسية؟ وهل يظل هذا النموذج المرن قادرًا على حماية مصالح الأردن واستقراره، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والتحديات الاقتصادية التي قد تؤثر على قدرة الدولة في التكيف مع المتغيرات العالمية؟
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.
الأخبار الأكثر تداولاً
أكسيوس: تأجيل الاحتلال الإفراج عن الأسرى جاء بعد جلستين أمنيتين