استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2025.. انكفاء أم إعادة حسابات؟
ما يتضح من الوثيقة الجديدة أنها لا تشكّل انعزالاً، بل انكفاءً محسوباً، حيث تعيد تعريف القوة، وتصوّب الأداة العسكرية نحو ساحات المنافسة الاستراتيجية الرئيسية (كالتواجد في المحيطين الهندي والهادئ)، بينما ترفع من شأن الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية كأسلحة رئيسية.
هذا يقود إلى الانتقال من حروب الأرض كما في العراق وأفغانستان، والتي تعترف الوثيقة ضمنياً بإخفاقها في خلق استقرار دائم، إلى حروب المستقبل على رقائق السيليكون وأسواق الطاقة وسلاسل التوريد، ما يعني أن أمريكا تخلع زي ((الشرطي العالمي)) لترتدي حلّة ((المنافس الاستراتيجي)).
في الوثيقة الجديدة، لم تعد أمريكا ترى أوروبا محوراً مركزياً لأمنها القومي. وبدلاً من ذلك، ركّزت على نصف الكرة الغربي، حدودها المباشرة، وأمنها الداخلي والسياسي والاقتصادي. أوروبا، الحليف التقليدي لأمريكا، باتت تواجه تحديات جوهرية؛ إذ إن الوثيقة تشير إلى تعرض أوروبا إلى ((محو حضاري))، بسبب الهجرة والتغيرات الديموغرافية، وتطالبها بتحمل مسؤولياتها الأمنية بدل الاعتماد على واشنطن. هذه الرسائل تأتي في وقت توتر العلاقات الأوروبية مع روسيا، ما قد يدفع القارة العجوز إلى إعادة النظر في سياساتها الأمنية والدفاعية، مع الحد من توقعات الدعم الأمريكي المباشر.
كما تصدر الوثيقة إشارات واضحة بشأن حلف الناتو، وفق مبدأ ((لا لتوسّعه اللامحدود)). هذه ((الرسالة)) ترضي موسكو جزئياً، لأنها تعتبر التوسع المستمر للحلف تهديداً استراتيجياً، وفي الوقت نفسه تضع سقفاً للتوقعات الأوروبية من واشنطن.
لذلك، جاءت ردود فعل أوروبا مزيجاً من الصدمة والاستنكار الضمني. فهي التي باتت أكثر قلقاً وأقل اطمئناناً، وهي مجبرة على مواجهة معضلة وجودية؛ فإما المضي قدماً في تكامل دفاعي حقيقي ومكلف، أو المخاطرة بفقدان المصداقية والقدرة على ردع التهديدات في جوارها المباشر. هذا الدفع الأمريكي قد ينجح في خلق حليف أقوى على المدى الطويل، لكنه يخلق جواً من عدم الثقة ويفتح الباب أمام مزيد من السياسات الوطنية المنفردة في القارة.
فرص ومخاطرأما على الجانب الآخر، فكانت القراءات متباينة؛ فروسيا ترى في سقف توسع ((الناتو)) انتصاراً جزئياً لخطابها، لكنها تدرك أن تحرير الموارد الأمريكية من الالتزامات الأوروبية قد يعني تركيزاً أكثر حدة ضدها في مجالات الحرب الهجينة والاقتصاد. إذاً الانكفاء الأمريكي يعطي موسكو هامشاً في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، لكنه يزيد من مخاطر المواجهة المباشرة غير المحسوبة مع أوروبا إذا شعرت الأخيرة بقوة جديدة.
أما الصين، فهي تقرأ التركيز الأمريكي على المنافسة التكنولوجية والاقتصادية كاعتراف بأن ساحة المواجهة قد تحوّلت. فالانكفاء العسكري الأمريكي في مناطق معينة يُفسر في بكين على أنه تحرير لموارد ستُوجه نحو حصارها في بحر الصين الجنوبي ومحيطها الاستراتيجي. لذلك، جاء رد الفعل الصيني متزناً ظاهرياً، داعياً إلى ((تعاون رابح -رابح))، بينما تُسرّع من خططها لتعزيز اكتفائها الذاتي التكنولوجي وتعميق تحالفاتها عبر مبادرة الحزام والطريق.
الضامن الأمنيفي منطقة الشرق الأوسط، يؤكد الانكفاء الأمريكي نهاية عصر الضامن الأمني الأحادي. لم يعد الفراغ ((استراتيجياً)) يملؤه طرف واحد، بل أصبح سوقاً تنافسية مفتوحة. فدول المنطقة تسارع إلى تنويع تحالفاتها (مع روسيا، الصين، الهند) وبناء قدراتها الذاتية. هذا لا يعني انسحاباً أمريكياً كاملاً، بل تحولّاً نحو شراكات تقنية وأمنية انتقائية، تاركاً الباب مفتوحاً أمام صعود تحالفات إقليمية جديدة متشابكة ومتقلبة، تعكس نظاماً بلا قائد واضح.
في المحصّلة، لا تعلن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ببساطة عن تراجع، بل تسحب واشنطن بطاقتها من لعبة كانت تتحكم بها لتدخل لعبة جديدة قواعدها أكثر ملاءمة لها، عبر الانتقال من نظام هيمنة أحادية القطب، كان ينظر إليه خارج الغرب على أنه مصدر لعدم الاستقرار في كثير من الحالات، إلى مرحلة فوضى متعدّدة الأقطاب، قد تكون مؤقتة أو انتقالية.
إخلاء المسؤولية القانونية:
تعمل شركة "شبكة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا للخدمات المالية" على توفير المعلومات "كما هي" دون أي
تعهدات أو ضمانات... سواء صريحة أو ضمنية.إذ أن هذا يعد إخلاء لمسؤوليتنا
من ممارسات الخصوصية أو المحتوى الخاص بالمواقع المرفقة ضمن شبكتنا بما
يشمل الصور ومقاطع الفيديو. لأية استفسارات تتعلق باستخدام وإعادة استخدام
مصدر المعلومات هذه يرجى التواصل مع مزود المقال المذكور أعلاه.

Comments
No comment