(
MENAFN- Al Watan)
في وقت أصبحت فيه مواقع
التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، برزت ظاهرة جديدة تتعلق بمشاهير تلك المنصات، حيث باتوا يسيطرون على المشهد بأرقام خيالية وتصريحات مبالغ فيها حول أرباحهم الإعلانية. هذه الأرقام، التي كثيرًا ما تفتقر إلى الدقة والمصداقية، تحوّلت إلى وقود لإثارة الجدل المجتمعي، ودفعت العديد من الشباب والشابات إلى تقليد هؤلاء المشاهير دون التفكير في العواقب.
تحرك الهيئة العامة لتنظيم الإعلام لاستدعاء إحدى مشهورات ((سناب شات)) ومساءلتها بشأن تصريحاتها حول دخلها الإعلاني يمثل خطوة إيجابية تسير في الاتجاه الصحيح. هذا الإجراء لم يأتِ فقط لتنظيم القطاع الإعلاني، بل ليضع حدًا للادعاءات الوهمية التي تضلل الجمهور وتسهم في تكوين صورة غير واقعية عن النجاح والثروة.
ومع ذلك، فيجب ألا يقتصر الأمر على محاسبة المشهورة فحسب، بل يجب أن يمتد ليشمل من نشر وأعلن وروج لمثل هذه الأخبار والتصريحات غير الموثقة وغير الدقيقة دون الاستناد على مصادر رسمية.
لا شك أن تأثير هذه الظاهرة يتجاوز الأرقام والدعايات، ليصل إلى عقول الأجيال الجديدة التي باتت ترى في هؤلاء المشاهير قدوة ونموذجًا يُحتذى به. وأصبحت الشهرة والثراء أهدافًا بحد ذاتها، بينما تم تهميش القيم الحقيقية التي يجب أن يبنى عليها المجتمع والوطن، مثل العمل الجاد، والإبداع، والعلم. والمشكلة الكبرى تكمن في أن محتوى الكثير من هؤلاء المشاهير لا يحمل أي قيمة فكرية أو ثقافية، ومع ذلك يتم الترويج له على أنه النموذج المثالي للحياة.
لذلك لا بد أن ندرك أنه حين تسقط القدوات الحقيقية من أصحاب العلم والقيم، وتُهمَّش الأسرة، ويضعف التعليم، تصبح التفاهة هي الصوت الأعلى في المجتمع. اليوم نرى كيف يُنظر إلى الأطباء، والمهندسين، والأكاديميين، والعاملين بجد من أجل رفعة الوطن على أنهم مجرد طبقة كادحة، بينما يتربع مشاهير السوشال ميديا على عرش الاحترام والإعجاب. هذه المفارقة العجيبة والمؤلمة لا تترك أثرًا نفسيًا فحسب، بل تسهم في تغيير معايير النجاح لدى الجيل الجديد، حيث تُختصر الطموحات في مقاعد الشهرة بدلًا من مقاعد العلم والعمل والإبداع المثمر الجاد.
هذه الحالة تفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول تأثير هذا النوع من المحتوى على المجتمع. كيف يمكن أن يكون المظهر السطحي والتفاخر بالمال هو الرسالة التي نود إيصالها للأجيال القادمة؟ ولماذا أصبح السباق نحو الشهرة على حساب القيم والمبادئ هو الخيار الأكثر جاذبية؟
الإجابة تكمن في غياب الرقابة الكافية وضعف التوجيه الأسري، ما ترك الباب مفتوحًا أمام التأثيرات السلبية لهذه الظاهرة.
ومع انتشار هذه الظاهرة، ظهر خلل واضح في منظومة الإعلانات. كثيرًا ما نرى أرقامًا فلكية تُعلن عنها بعض الشخصيات، ما يثير التساؤل حول مصداقيتها والهدف من وراء الإفصاح عنها. كيف يمكن لمشاهير مواقع التواصل تحقيق أرباح تفوق أحيانًا أرباح شركات إعلانية تقليدية تمتلك خبرات وتجهيزات ضخمة؟ هذا الواقع يكشف عن الحاجة إلى تشريعات واضحة تضمن الشفافية والمصداقية في هذا المجال. بفرض ضرائب عادلة على أرباح الإعلانات المُعلنة، وتنظيم المحتوى الدعائي بما يضمن التزامه بالقيم المجتمعية، قد يكونان بداية لحل المشكلة.
لكن الحلول التشريعية وحدها لن تكون كافية. الأسرة لها دور أساسي في بناء وعي الأجيال القادمة، من خلال تعليم الأبناء أن المال وسيلة لتحقيق أهداف سامية وليس غاية في حد ذاته. يجب أن نغرس في نفوسهم قيم العمل الجاد والنزاهة، وأن نعلمهم أن النجاح الحقيقي لا يقاس بعدد المتابعين أو الأرقام المعلنة، بل بمدى تأثير الفرد وإسهامه الإيجابي في المجتمع.
إذا استمر الوضع على حاله، فإننا نسير نحو الطريق المنحدرة والتدهور في معايير النجاح والطموح. وعلينا جميعًا أن نتحرك سريعًا لإعادة بناء منظومة القيم، وتعزيز دور العلم والعمل كركائز أساسية لتحقيق الأحلام.
التفاهة قد تجذب الأضواء لفترة، لكنها في النهاية لا تبني مجتمعات قوية. الأجيال القادمة تحتاج إلى قدوات حقيقية تُلهمهم للعمل من أجل مستقبل أفضل، وليس للسعي وراء سراب الشهرة الوهمية.
MENAFN28122024000089011017ID1109038300