ليس التحدي التكنولوجي هو ما سيوقف السيارات ذاتية القيادة من الانتشار في الخليج، بل هي المنظومة الأخلاقية التي قد تشكل عائقاً | سنديكيشن بيورو


(MENAFN- Syndication Bureau)

عندما عُرضت نظارات غوغل (Google Glass) لأول مرة في عام 2012، تم الترويج لها كخطوة أولى نحو مستقبل الولوج غير اليدوي إلى المعلومات. لكن في غضون ثلاث سنوات، وضعت غوغل المنتج على الرف حتى أجل غير معروف. ولم تكن التكنولوجيا وراء اختفاء نظارات غوغل بل كانت الأخلاقيات. فالجماهير كرهت فكرة تصويرها دون علمها، وكان من المتوقع أن تحظر دول مثل دول الخليج، التي تتوفر على قوانين تمنع التقاط الصور في الأماكن العامة دون موافقة، استعمال تلك النظارات. ونظراً لاعتراض الجمهور بقوة على هذه التكنولوجيا، لم يأبه مطورو البرمجيات بالاستثمار في تطبيقات لهذه النظارات التي احتضرت بهدوء إلى أن اختفت عن الأنظار.

أحيانا، يمكن لقضايا اجتماعية وأخلاقية أن تكبح الابتكار التكنولوجي. وهذا ما يمكن أن يحدث مع السيارات ذاتية القيادة، التي لا تزال موجودة في منطقة رمادية تقنية وقانونية وأخلاقية، على الرغم من الدعاية والترويج الإعلامي لها على مساحات واسعة، وعلى الرغم من التجارب المنجزة في العديد من البلدان، بما في ذلك دول الخليج.

وكان حادث سيارة في ولاية أريزونا قد سلط الضوء على هذه القضايا بحدة، حيث دعست سيارة “أوبر” ذاتية القيادة امرأة كانت تعبر الطريق، فأودت بحياتها في أول حادث مميت ينطوي على سيارة مستقلة ومارة. ولئن كانت جميع الوقائع غير معروفة إلى حد الآن، فثمة جانبان بارزان: أولهما وجود سائق بشري على متن السيارة، لكنه لم يتقلد زمام الأمور قبل التصادم؛ وثانيهما هو أن السيارة، وفقا لمصالح الشرطة، لم تبطئ من سرعتها عند اقترابها من الضحية، مما يشير إلى أن نظام الذكاء الاصطناعي (AI) على متن السيارة، ولا حتى الشخص المتواجد داخلها، لم يدرك المشكلة.

قريبا، سيكون الذكاء الاصطناعي محيطا بنا. لكن السيارات ذاتية القيادة ستكون أول اختبار كبير، حيث ستكون الروبوتات ذات القدرة على قتل البشر متواجدة بأعداد كبيرة. ولعل قبولها واعتمادها لن يكون رهينا بمسائل تكنولوجية فقط، بل أخلاقية، وهي مسائل نوقشت منذ آلاف السنين.

ذلك أن جذور هذه التكنولوجيا متأصلة في مشكلة فلسفية قديمة: كيف يمكن اختيار من سيعيش ومن سيموت؟ في السنوات الأخيرة، وتحديدًا فيما يتعلق بالمركبات ذاتية القيادة، طرح السؤال في صيغة “معضلة العربة الأخلاقية”. وتتلخص الفكرة في يلي: تتوجه عربة بسرعة نحو خمسة أشخاص. إذا اصطدمت بهم، فمن المؤكد أنها ستقتلهم جميعا. بإمكانك سحب رافعة لتغيير مسار العربة، لكن فقط باتجاه طريق آخر حيث ستقتل شخصًا واحدا بدلا من ذلك. ماذا عساك أن تفعل؟

هذا السؤال مهم بشكل خاص لأن السيناريو يطلب منك أن تتخذ قرارا بشأن مشكلتين. فلا يكفي أن تقرر ما إذا كانت خمسة أرواح بشرية تستحق الحياة أكثر من روح واحدة، بل عليك أيضا أن تقرر أن يعني ذلك أنك ستكون مسؤولاً أخلاقياً عن موت ذلك الشخص الآخر. إن لم تفعل شيئا فخمسة أشخاص سيموتون، أو إن فعلت، فأنت من سيقتل شخصا واحدا.

وتُطرح هذه المعضلة والورطة الأخلاقية مرارا وتكرارا في العالم الحقيقي للقيادة، مع إضافة بعض المتغيرات: هل يستحسن أن تصطدم السيارة بحافلة مدرسية أو حافلة تقل أشخاصا مسنين؟ هل يجب على الذكاء الاصطناعي للسيارة أن يحمي السائق على حساب المارة؟ في هذه الحالات، يتخذ البشر قرارات في رمشة عين لا يمكنهم غالبا تذكرها أو تفسيرها. لكن يجب أن تُبرمج الآلات على القرارات الواجب اتخاذها، ومن الممكن تصور سيناريو مستقبلي في محكمة حيث يتم عرض التفكير المنطقي للآلة بشكل جلي ليسمعه ضحاياها.

فضلا عن ذلك، لا يكفي فهم هذه المسائل بشكل ضمني، أو تضمينها في بنود وشروط تفصيلية. وكما أبرز ذلك الغضب الحالي تجاه التنقيب في بيانات الملفات الشخصية على فيسبوك، فيمكن للجمهور الموافقة على الشروط والأحكام دون فهم كامل لتداعياتها. وبمجرد ما تتضح تلك التداعيات، يمكن للجمهور سحب الموافقة. وهذا ما من شأنه أن يحدث مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تحكم السيارات ذاتية القيادة.

وقد شرعت بعض الحكومات، بالفعل، في وضع المبادئ التوجيهية ذات الصلة بهذا الموضوع. وهكذا، اعتمدت ألمانيا، على سبيل المثال، مبادئ توجيهية مفادها أن المركبات ذاتية القيادة لا يمكنها إعطاء الأولوية لحياة إنسان على حساب أخرى على أساس السن أو الجنس أو العرق أو الإعاقة. وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل ذلك أيضا، على الرغم من أن كل ولاية تتوفر على قواعدها وقوانينها الخاصة. أما في الخليج، فقد كلفت دولة الإمارات العربية المتحدة وكالة حكومية بوضع لوائح تنظيمية خاصة بالسيارات ذاتية القيادة، ولكنها لا تزال في مرحلة الصياغة.

لكن الأسوأ بالنسبة للمدافعين عن السيارات المستقلة يتمثل في أن أفضل المبررات المناصرة للسيارات ذاتية القيادة تفتقر إلى الثقل العاطفي. فالمسألة لا ترتبط فقط بعدد الأشخاص الذين ستقتلهم السيارات ذاتية القيادة بقدر ما تتصل بعدد الأشخاص الذين لن يقتلوا بسبب استخدامها. وقد سارعت تقارير وسائل الإعلام إلى الإشارة إلى أنه في اليوم نفسه الذي قتلت فيه السيارة ذاتية القيادة شخصًا واحدًا، يتوقع إحصائيًا أن يكون سائقون بشر قد قتلوا 16 شخصًا عبر الولايات المتحدة. ولو تم استبدال جميع السائقين البشر بسيارات ذاتية القيادة في ذلك اليوم، لعاش 16 شخصا آخرا.

وهذا الرقم أعلى في دول الخليج. ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، يبلغ عدد الوفيات الناجمة عن حوادث المرور 27,4 لكل 100 ألف نسمة، وهي أعلى نسبة في مجموعة العشرين. ويعتبر معدل الإمارات العربية المتحدة الأفضل في منطقة الخليج، حيث يسجل نفس مستوى الولايات المتحدة الأمريكية بمعدل 10,9، وإن كان كلاهما لا يزالان متخلفين عن أفضل البلدان، السويد وبريطانيا، حيث يبلغ معدل الوفيات بسبب حوادث المرور 2,9 لكل 100 ألف نسمة. لكن، يصعب على الجمهور استيعاب هذه الإحصائيات. فضلا عن ذلك، تبقى المسألة الجوهرية مرتبطة بالعدالة – الأسر التي فقدت أشخاصا أعزاء تريد أن تعرف من هو الجاني. فهي تريد أن يمثل شخص أمام المحاكمة وأن تتخذ العدالة مجراها. إلا أن المركبات ذاتية القيادة تلغي إمكانية إلقاء اللوم بنفس الطريقة. فلا يمكن الجز بخوارزمية في السجن.

وفي نهاية المطاف، عندما ستصبح السيارات ذاتية القيادة جاهزة لتقاسم الطريق مع سائقين فوضويين ومزاجيين بأعداد كبيرة، ستكون هناك حوادث لا محالة. ولعل ما سيقرر في النهاية قبول الجمهور لهذه السيارات من عدمه يتلخص في كيف طرأت تلك هذه الحوادث وما هي القرارات التي اتخذتها الآلات. وسيتحدد مستقبل السيارات ذاتية القيادة أقل من خلال خوارزميات دقيقة على شاشة لامعة، وأكثر من خلال أسئلة غامضة مستخلصة من كتب فلسفية اعتراها الغبار.

Mark Wilson/Getty Images/AFP

MENAFN29082021006092013261ID1102700232


Legal Disclaimer:
MENAFN provides the information “as is” without warranty of any kind. We do not accept any responsibility or liability for the accuracy, content, images, videos, licenses, completeness, legality, or reliability of the information contained in this article. If you have any complaints or copyright issues related to this article, kindly contact the provider above.