الخليج يواجه منافساً جديداً هو بريطانيا بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي وموضوع المنافسة لم يكن متوقعاً: إنه العمالة الأجنبية، وما أثمنها | سنديكيشن بيورو


(MENAFN- Syndication Bureau)

عندما حل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بالعاصمة البريطانية مطلع الشهر الجاري، كان المحور الرئيسي لزيارته هو العمل في اتجاه فتح آفاق جديدة للتجارة والاستثمار ترقباً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد تحركت دول خليجية أخرى في نفس الاتجاه منذ أن جرى الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنة 2016. والواقع أن دول الخليج متحمسة لإبرام اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا في أسرع وقت ممكن عقب مغادرة هذه الأخيرة للاتحاد الأوروبي، بل إن كلا الجانبين يستشعران أهمية استغلال فرصة بناء علاقات أوطد خلال هذه المرحلة.

غير أنه من ناحية أخرى فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعل منها منافساً لدول الخليج وليس حليفاً لها، وسوف يتركز هذا التنافس بالخصوص حول مورد ذي قيمة عالية للغاية، ألا وهو العمالة الأجنبية. وجوهر الإشكال هنا هو أن كلا الطرفين لديهما بيئة اقتصادية متعطشة إلى اليد العاملة – وإلى العمالة المتنوعة المهارات – إلى درجة تزيد عمَّا يمكن للساكنة المحلية توفيره. وبالنسبة للخليج، فإن هذه المنافسة المحدقة مع المملكة المتحدة قد تتحول في بعض جوانبها إلى قضية أمن قومي، بحكم أن لها تبعات على النموذج الاقتصادي السائد في المنطقة.

ومن بين الإشكاليات التي تروم المملكة المتحدة معالجتها نذكر مسألة سد الشواغر الوظيفية بـ”الهيئة الوطنية للخدمات الصحية”، وهي الجهاز الحكومي المكلَّف بتقديم الرعاية الصحية الشاملة في بريطانيا. يمتص هذا الجهاز بمفرده إحدى أعلى المخصصات المرصودة ضمن موازنة الحكومة البريطانية، حيث تنفق عليه الدولة ما يناهز 7 بالمائة من الناتج الداخلي الإجمالي، وهو ما زال يتطلب عمالة مؤهلة وأخرى متوسطة المهارات، وهذه احتياجات لا يمكن للساكنة البريطانية أن تسدها دون الاستعانة بالخارج، علماً بأن حوالي 20 بالمائة من موظفي “الهيئة الوطنية للخدمات الصحية” ليسوا من الجنسية البريطانية أصلاً.

للإشارة فإنه منذ توسع الاتحاد الأوروبي ليشمل ثماني دول من أوروبا الشرقية في عام 2004، كانت هذه العمالة الضرورية كثيراً ما تأتي من دول مثل بولندا وليتوانيا. ويبقى العدد الحقيقي لهذه الفئة من الوافدين إلى الأراضي البريطانية موضوع خلاف وتسييس حادين. فأزيد من مليون منهم وفدوا إلى المملكة المتحدة في السنوات العشر التي تلت 2004، فيما غادرها مئات الآلاف منهم خلال نفس الفترة.

لكن لا شك في أن العدد الحالي في تراجع مستمر. فتحسُّباً لمغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي في السنة المقبلة، باتت أعداد القوى العاملة في انكماش متسارع. حيث إن العديد من العمال الأوروبيين قد غادروا المملكة بسبب عدم ثقتهم في إمكانية ضمان حقوقهم خلال السنوات المقبلة، أو بسبب شعورهم بجو أكثر عدائية تجاههم من قبل الشركات والأفراد. وخلال السنة التي عقبت الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انخفض صافي الهجرة من دول أوروبا الشرقية الثماني – أي بعد طرح أعداد المغادرين من أعداد الوافدين – ليبلغ 5000 شخص، وهو أقل عدد منذ 2004. فحركة الهجرة المعاكسة إلى الوطن الأم قد أصبحت إذن واقعاً فعلياً.

هنا تبرز المنافسة مع الخليج، حيث إن الأماكن التي تلجأ إليها بريطانيا لاستقدام عمال جدد هي ذات الأماكن التي تلجأ إليها دول الخليج لاستقطاب العمالة الماهرة، ما يضع الطرفين في مواجهة مباشرة. وخلال الأشهر والسنوات المقبلة، قد تؤدي هذه المنافسة على إحداث تغييرات في كلا المنطقتين، وهو ما قد تكون له نتائج غير متوقعة.

إن “الهيئة الوطنية للخدمات الصحية” ليست القطاع الوحيد الذي يعول على العمالة الأجنبية، حيث إن “مكتب الإحصائيات الوطنية” قد سجل وفود مهاجرين من أوروبا الشرقية بعد سنة 2004 واكتشف أنهم يتجمعون في قطاعات الزراعة والتصنيع والتجزئة، إضافة إلى التعليم والصحة. فإذا غادر هؤلاء، ستضطر المحلات والمطاعم والفنادق والمزارع والمصانع لملء الوظائف الشاغرة بسرعة، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الطلب على العمالة الأجنبية في دول الخليج.

إلا أن القطاع الذي حظي بأكبر قدر من اهتمام الرأي العام في المملكة المتحدة يبقى هو قطاع الخدمات الصحية تحت إشراف “الهيئة الوطنية للخدمات الصحية”. ففي نوفمبر من السنة الماضية، أقرت وزارة الصحة بأنها كانت تسعى لتوظيف 5500 ممرض وممرضة من الهند والفلبين بأسرع وقت ممكن. إلا أن “الهيئة الوطنية للخدمات الصحية” في حاجة لعدد أكبر من هذا، نظراً لأن القطاع يواجه عجزاً وظيفياً يصل إلى 40 ألف ممرض وممرضة. ويعتبر الوضع أسوأ بكثير فيما يتعلق بالأطقم الطبية الأخرى، حيث يصل عدد الوظائف الشاغرة في جميع مجالات خدمة الصحة العامة إلى 100 ألف وظيفة شاغرة. (لتوضيح الصورة، نشير إلى أن مجموع عدد العاملين في القطاع الصحي بالمملكة العربية السعودية، التي تعتبر أكبر اقتصاد في الخليج، هو 250 ألف عامل).

ويعتمد المجال الطبي في الخليج بشكل كبير على موظفي الصحة والتطبيب الأجانب القادمين من الدول العربية الأخرى والهند والفلبين. وفي حين سيظل الخليج هو الوجهة الأولى بالنسبة لمواطني الدول العربية، فإن الوافدين من باقي الدول قد يسهل عليهم اختيار الذهاب للمملكة المتحدة. وبغض النظر عن جاذبية العمل والعيش في الغرب، يوجد إغراء الحصول على الجنسية لاحقاً، وهذا سيخلق تنافسية مباشرة على اجتذاب العاملين.

علاوة على هذا وذاك، إذا كانت المملكة المتحدة تبحث عن عاملين أجانب، فإن أبرز مكان للبحث ليس هو الهند أو الفلبين، بل دبي وأبوظبي والدوحة. إن هذه المدن الثلاث، وغيرها في باقي أنحاء الخليج، تحتضن أطقماً طبية ذات مهارات عالية وخبرة في منشآت طبية تمتثل للمعايير العالمية، ومهارات لغوية قوية، لذلك فإن استقطاب الموظفين من الخليج بشكل مباشر هو خيار آخر بالنسبة للمملكة المتحدة.

إن الطريقة التي ستتفاعل بها دول الخليج مع هذه التنافسية من شأنها أن تؤثر على صناعات أخرى غير الرعاية الصحية، إذ يمكن أن تمتد في البداية إلى خدمات التجزئة والخدمات الغذائية كذلك. ولعل الطريقة البديهية لدخول غمار المنافسة هي زيادة الرواتب التي لن تجذب العمال فقط، بل سوف تستقطبهم أيضاً من مهن ذات الصلة مثل التعليم أو العمل الاجتماعي. كما أن للرواتب المرتفعة صلة بالمكانة الاجتماعية، ما من شأنه أن يغري المزيد من المواطنين الخليجيين للعمل في المجالات الطبية، وهو ما سيؤثر على نوعية الخدمات التأهيلية المقدمة.

وبسبب العدد المنخفض نسبياً لسكان منطقة الخليج، يمكن أن تُؤدي تغييرات بسيطة نسبياً إلى إحداث تحولات مهمة في السياسة العامة. لنأخذ الإمارات على سبيل المثال، حيث يوجد 25 ألف ممرض(ة) يعملون في مختلف أرجاء البلاد، فإن غادر منهم ألفان فقط سيشكل ذلك نسبة مرتفعة.

علاوة على ذلك، تعرف الإمارات على وجه الخصوص نمواً سريعاً وهي في حاجة لأعداد أكبر من الممرضين مما هو عليه الحال في الوقت الراهن. وقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن الإمارات تملك 31 ممرض(ة) لكل 100 ألف شخص، وهو عدد أقل من جارتيها السعودية (48) وعُمان (53)، وأقل بكثير من المملكة المتحدة (88).

إن التنافس المتزايد على عمال الرعاية الصحية قد يؤثر على آمال الإمارات في أن تكون مركزاً للسياحة الطبية. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن تقديم رواتب مرتفعة وامتيازات أخرى تعزز الأجور الصافية يبقى من أبسط الوسائل لاجتذاب العمالة الطبية والحفاظ عليها، دون أن ننسى أن غياب الضرائب المفروضة على الدخل الفردي يعد من بين عوامل الجذب الثابتة بالنسبة للعمال الأجانب في دول الخليج. أضف إلى ذلك أن الرواتب المرتفعة ستثير اهتمام الفئات العاملة في عدد من الدول الغربية أيضاً، لكنها بالمقابل ستشعل شرارة المنافسة مع دول أخرى.

وقد يؤثر ذلك على السياسة الخارجية أيضاً، فالفلبين والهند تحافظان على علاقات مقربة مع دول الخليج لأن هذه الأخيرة تمثل محور جذب لمواطني الدولتين الراغبين في العمل. وهذا الوضع لن يتغير، لكن يُحتمل أن تسعى دول الخليج إلى إبرام شراكات جديدة مع دول مثل إندونيسيا التي تتميز بساكنة مفعمة بالشباب كما أنها تتشارك نفس الديانة، ولهذا فإنه من الممكن أن تتزايد أهميتها كمصدر للعمالة مع مرور الوقت. وسيترتب عن ذلك تحول دبلوماسي ملحوظ.

ويُحتمل أن تطرأ هذه التحولات غير المتوقعة بشكل سريع نسبياً على خلفية قرار سياسي يُتخذ هنا أو هناك، حتى على بعد آلاف الأميال من البلد المعني. ذلك أن السهولة التي يمكن للأفراد أن يتنقلوا بها عبر العالم اليوم أصبحت تفرض على الحكومات أن تتنافس فيما بينها من أجل استقدام أفضل العقول والمهارات؛ ومن المفارقة أن القواسم المشتركة التي تجمع بين المملكة المتحدة ومنطقة الخليج – من ظروف عمل متقاربة ولغة أعمال مشتركة – هي نفسها التي قد تدفعهما للدخول في منافسة.

وبذلك فإن الأثر الناجم عن استفتاء كان يخص سياسات بريطانيا الداخلية وحدها قد يصل إلى شواطئ دول الخليج، مما يستدعي هذه الأخيرة للتخطيط بالشكل المناسب وعلى وجه السرعة حتى لا يؤثر هذا الوضع سلباً على رفاهها الاقتصادي.

AFP PHOTO/PRAKASH SINGH

MENAFN29082021006092013261ID1102700225


Legal Disclaimer:
MENAFN provides the information “as is” without warranty of any kind. We do not accept any responsibility or liability for the accuracy, content, images, videos, licenses, completeness, legality, or reliability of the information contained in this article. If you have any complaints or copyright issues related to this article, kindly contact the provider above.